يونس الفنادي
منذ القدم اهتمت العرب بفكرة الأسبقية والريادة حتى أنهم قالوا (الرائدُ لا يَكْذِبُ أهلَه) لما للرائد من حضور وثقة ومكانة واحترام في مجتمعه أياً كان مجال ريادته. وتمثل الريادة سبقاً وأولويةً تاريخيةً في كل تخصص علمي أو جنس أدبي أو عمل إبداعي. ويتعدد هذا المجال ويتنوع في جميع المجتمعات بحسب طبيعتها وظروف نشأتها وفتراتها الزمنية، وإن كان يهمنا هنا الإشارة إلى المجال الأدبي والشعري، ومحاولة تسليط الضوء على (بعض) رياداته في ليبيا بما يسمح به وقت ومساحة هذه الورقة القصيرة التي غايتها الأساسية إثارة (بعض) الأسئلة حول موضوع الريادة بشكل أكثر شمولية.
فالريادة الأدبية مثل غيرها من الريادات، تبرز السبق التاريخي الذي تشرفت به وسجلته عبر مسيرة الإبداع الإنساني في ليبيا، ولها فضل تمهيد الطريق أمام الآخرين لمواصلة المسيرة بالنسج على منوالها بالمزيد من العطاء المماثل، وكذلك التطوير الفني والتجديد بجميع أوجهه. ولا شك بأن الخطوة الأولى في أي مجال تمثل للإنسان المبدع تحدياً لجملة من الصعوبات والعراقيل الفكرية الاجتماعية، وكذلك المادية على أرض الواقع بكل أنماطها، ولكن (أحياناً) بفضل الرغبة والإرادة والعزيمة الحماسية تتلاشى جميع تلك المعوقات ويتحقق الهدف بتسجيل ريادة إبداعية تمثل شرارةً أو إشعاعاً في بداية مشوار إبداعي جديد، لابد له من أن يتوهج ويعم نوره أرجاء تالية.
وفي تصوري أنه بقدر أهمية استعراض كل الريادات وأسماء الشخصيات المحترمة التي سجلت سبقها في المجتمع الليبي منذ نشأة الدولة الحديثة وظهور بوادر مواكبة العصر والنهضة الفكرية والمجتمعية بجميع صنوفها، فإن ما يجب التعرف عليه والاهتمام بدراسته هو:
أولاً: الظروف والملابسات والمناخات التي انبثقت منها تلك الريادات حتى تحولت إلى نقلة حضارية تحققت للمجتمع.
ثانياً: مستوى الوعي الجمعي الماضوي بأهمية المبادرة ذاتها والسعي لتسجيل الريادة والسبق.
ثالثاً: دوافع المظلة الاجتماعية في احتضان ودعم وتشجيع كل المبادرات الرائدة رغم الفقر والجهل وانعدام مواكبة العالم.
رابعاً: الرؤى والتطلعات الفكرية التي كانت سائدة في تلك العهود الزمنية البعيدة ومدى قدرتها على استشفاف المستقبل بأهمية الريادة وتأثيراتها القادمة.
وعند تتبع موضوع الريادات والاكتشافات والابتكارات بشكل عام يمكن القول بأن ولادة (بعض) الريادات قد جاءت إثر صدفة تاريخية، وليست وفق منظور تخطيطي ورغبة قصدية متعمدة ضمن برنامج يهدف لتحقيق سبق تاريخي بخطة استراتيجية شاملة لتقليد تجارب غيرية مشابهة ونقلها من مجتمعات أخرى عربية أو أجنبية، إيماناً بأنها ستكتسي أهمية في المستقبل، وتستقطب العديد من اللاحقين بها والمنضمين إليها من الأجيال التالية، مع التأكيد بأن هناك من استغل بفطنته وذكاءه هذه الصدف المثمرة التي نصفها (رُبَّ صُدْفَةٍ خَيْرُ مِنْ أَلْفِ مِيعَادٍ) وتفنن في استثمارها وتوظيفها وتطويرها، وتوطينها في مسيرة الحياة من خلال أفكاره ونبوغه وتساؤلاته العميقة، فحققت للإنسانية الكثير من الفوائد المتواصلة حتى صار لقب الريادة التاريخية جديراً به.
وللتدليل على حضور الصدفة ودورها في العمل الريادي والابتكاري على المستوى الإنساني العالمي نجد رائداً من رواد علوم الفيزياء الإنجليزي "إسحاق نيوتن" قد نقلته صدفة سقوط التفاحة أمام عينيه حين كان جالساً وسط حديقة سنة 1667م لتكون فتحاً غير مسبوقٍ في الحياة باكتشافه "قوانين الجاذبية الأرضية" وما ترتب عنها لاحقاً من نظريات علمية وتطبيقات عملية.
كما أن العالم الاسكتلندي "الكساندر فليمنج" قد حقق إنجازاً فريداً ومهماً للإنسانية سنة 1929م باكتشافه مادة "البنسلين" حين ترك صدفةً في مختبره، وعاءً مليئاً بالبكتريا عارياً بلا غطاء لفترة من الوقت، فتكونت طبقة من العفن غطت الوعاء وأدت إلى التخلص من البكتريا الموجودة بالإناء، فكان ذلك فتحاً علمياً وإيذاناً لبداية عصر "المضادات الحيوية" في علم البيولوجيا.
وفي المقابل فإن إطلاق (عام الصبايا) على سنة 1964م في ليبيا إثر سن قانون حق تصويت المرأة الليبية في الانتخابات لم يكن مجرد صدفة عابرة أو نشاط عامٍ واحدٍ فقط، بل هو ثمرة مجهود زمني متراكم للمرأة في ليبيا، انطلق منذ تأسيس "جمعية النهصة النسائية" سنة 1957م ببنغازي، وربما حتى قبلها، فتلك الجمعية التاريخية وضعت حجر أساس الحركة النسوية في ليبيا بدايةً من التوسع في تعليم المرأة وانخراطها في مجالات العمل بالتدريس والتمريض والصحافة والإعلام، وكل ذلك -وفق تصوري- كان مشروعاً وطنياً بامتياز نتيجة سعة أفق السيدات الفضليات المشرفات على الجمعية الرائدة وغيرها من المؤسسات المناظرة، واضعين نصب أعينهن نموذج الفتاة الشابة "آريتي ارستبوس Arete Aristippus" التي تعد أول أستاذة جامعية في تاريخ البشرية جمعاء حين قادت مدرسة الفلسفة في مدينة قورينا التاريخية وتتلمذ عليها خلال الفترة من 340 إلى 400 قبل الميلاد الكثير من الفلاسفة.
وتظل أبرز الكتب التي وثقت للرائدات الليبيات خاصة في مجال الأدب كتاب (معجمُ الكاتباتِ والأديباتِ الليبيات) الصادر سنة 2005م للكاتب عبدالله مليطان وهو عبارة عن تأريخ للتجربة النسائية الأدبية والشعرية منذ 1958م وحتى 2005م، و(كاتباتٌ ليبيَّاتٌ) الصادر سنة 2008م للأستاذة أسماء مصطفى الأسطى والذي يقدم "دراسات وبيليوغرافيا" ومقالات تناولت تتبعاً تاريخياً واستعراضاً لأهم الرائدات في مجال الشعر والقصة والرواية والفن التشكيلي منذ الحكم العثماني لليبيا، وسلسلة كتاب (رائداتٌ ومتميزاتٌ ليبيَّاتٌ) للإذاعية عائدة الكبتي الصادر جزأه الأول سنة 2021م، وهو عمل يوفر سير شخصيات تولت كل واحدة منهن كتابتها بنفسها وأرسلتها للكاتبة فنشرتها دون تعديل أو تدقيق في معلوماتها، وكتاب (نِساءٌ خارجَ العزلة) الصادر سنة 2011م للكاتبة فاطمة غندور تناولت فيه سيرة بعض الرائدات الليبيات ولقاءاتٍ أجرتها مع بعضهن.
إنَّ جميع هذه الإصدارات القيمة توفر أهم المعلومات حول الرائدات الليبيات ولكنها غفلت بالتأكيد عن بعض أسماء الرائدات، ولا بأس من تضمينها لاحقاً في إصدارات تالية ومن بينهن مثلاً:
1) وسيلة العاشق، أول سيدة ليبية (تؤسس) و(ترأس) حزباً سياسياً وهو "حزب الأمة" في شهر نوفمبر 2012م بليبيا.
2) سعاد مازق مصطفى، أول ليبية متخصصة في مجال الأرصاد الجوية تخرجت معي ضمن أول دفعة في قسم الأرصاد الجوية بكلية العلوم بجامعة طرابلس سنة 1984م والتحقت بالعمل في مجال التنبؤات الجوية بالإدارة العامة للأرصاد الجوية، ثم مشروع زراعة السحب والأمطار الصناعية، ولكنها في نهاية المطاف انتقلت للعمل في مجال التعليم.
أخيراً
يرى بعض أنصار الفكر النقدي الموضوعي بأن صفة الريادة يجب ألاّ تكتفي بالأسبقية التاريخية لتحظى بهذه الألقاب والصفات الشرفية المحترمة، بلا تستوجب توفر جوانب واشتراطات أخرى لتعزيز وتأكيد هذا الانتساب واستحقاقه بجدارة، ومن أهمها قصدية العمل وفق مشروع ممنهج، فردي خاص أو جماعي مجتمعي، بنية الخلق والإبداع والتفرد والتميز، وليس ترك الأمر للمصادفة التاريخية أو الحظوظ غير المضمونة، مع ضرورة أن تكون من خصائص هذا المشروع كذلك خاصية الاستمرارية والديمومة لكي يتبلور السبق كظاهرة إبداعية في نسيج الفرد والمجتمع وبالتالي تستحق القبول والدعم الوطني الذي يليق بها. ولا شك بأنه في حالة توفر كل ذلك فلن تكون الريادة مجرد جهد آحادي فقط، بل هو مجهود يتأطر وسط فضاء جمعي متكامل داعم ومشجع على المثابرة والجد والعمل الدوؤب الممنهج.
إنَّ هذا الطرح الذي يحمل وجهة نظر شخصية لا يتعارض كلياً مع مشروعية استمرارية النقاش وتبادل الأراء والحوارات المعمقة حول الأسئلة المهمة عن الريادة والتي وردت في سياق الورقة والتي أبرزها:
هل الريادة مجرد جهد ظرفي عابر؟ أم تقتضي عملاً دؤوباً ممنهجاً سعياً لتمهيد الدرب أمام عابرين آخرين؟
وهل تكفي الصدف لنيل لقب الريادة التاريخية؟ أم لابد من القصدية والديمومة والاستمرارية؟
في الختام تحية لجميع الرائدات الفضليات والرواد الأفاضل على ما بذلوه من جهد وقدموه من أعمال ظلت حاضرة في تاريخنا الراهن.
----------