حاورتها "حنان علي كابو"
بين الفلسفة والكتابة الإبداعية خيط رفيع جدا، تمسكه ضيفتي برقّة الأنثى وحكمتها وصبرها الطويل ،يتدفق في هذا الفكر المرهق الكثير من الإنسانية التي تتشظى لوجعها ومكابداتها سبل الخلاص، وهي التي خبرت الحياة واستقبلت كل تقلباتها ومزاجها بابتسامة اعتداد . تجول مع شخصياتها، تأسرها التفاصيل المهمشة، تفتنها أغوار النفس ومسالكها الملتوية وأبوابها التي تترك دوما مواربة. أرهقتها "وتقفز كلمة ربما " أرهقتها "إيشي"، وماذا أعمق من وطأتها
نقرأ في سيرتها
الروائية الليبية/ عائشة الأصفر -إحدى أهم الروائيات الليبيات-، من مواليد 1956، نشأت وتقيم في سبها، ودرست بمدارسها. حاصلة على ليسانس فلسفة (جامعة قاريونس ـ بنغازي ـ 1978). تعد أول امرأة ليبية تقود طائرة في (1974). كتبت في قضايا المرأة في عدد من الصحف الليبية. صدر لها ست روايات: (اللي قتل الكلب ـ 2007)، (خريجات قاريونس ـ 2007)، (اغتصاب محظية ـ 2012)، (النص الناقص ـ 2017)، (علاقة حرجة ـ 2019 )، (و"إيشي”.. 2023.). ... روائية، حضرت العديد من الندوات، وكُرمت من عدة جهات، ومنتديات ثقافية ورسمية. درع الإبداع من وزارة الثقافة في( أيام سبها الثقافية3) 2008م درع الدولة للتميز والإبداع من قبل وزارة الثقاقة الليبية في الملتقى الثالث للإبداع طرابلس 2020م. درع الإبداع من الصالون الثقافي لمكتب الثقافة "سبها" 2020م. درع التميز من منتدى ألوان الأدبي 2017م. شهادة تكريم في يوم (الكاتبة الليبية) من دار المكتبة العلمية العالمية2017. طرابلس. شهادة تكريم من منتدى المناضل بشير السعداوي الثقافي.طرابلس. ينشر لها على بعض المواقع الأدبية. عضو في لجنة تحكيم الدورة الأولى لجائزة أحمد ابراهيم الفقيه للرواية الليبية. والتي نظمها موقع بلد الطيوب 2020م. شاركت في تحكيم مسابقات القصة للموقع الالكتروني (المنبر الليبي والعربي والعالمي)
" الرواية الحقيقية إنسان يمشي عاريا، وحياة بلا خجل"
من الفلسفة الي الرواية طريق شائك بالتأمل، لماذا الرواية؟ --
يبحث الفيلسوف في فلسفته عن القيم وعن الجمال المنوطين بالأدب، ويحلق الأديب في نصه بتأمل فلسفي وخيال معرفي، وعلى هامش الواقع يحركه من جديد، ثمة تقاطع بين الفلسفة والأدب، ربما هو البحث عن إجابة، عن عبور آمن، أنا أبقى طالبة فلسفة لا أكثر، ثم لا ننسى أن بعض الأعمال الإبداعية المشهورة كتبها فلاسفة. الرواية الحقيقية إنسان يمشي عاريا وحياة بلا خجل. والحياة الحقيقية تبرر الشر والخير معا. وهي مواقف خيبات ونجاحات، في الرواية تعامل الشخصية مع صدمة الواقع يحدد ملامحها. ثمة نوعين من الشخصية، نوع ينغلق على ندوب الخيبات ويعيش تبعاتها مهزوما. وشخصية تبتر الندبة وتمضي. ونحن في مجتمعات الغلبة للعاطفة وأثر الخيبات والندوب يتمدد داخلنا عاهة. نكبر بها مشوهين. والقصة هنا تطول، وحدها الرواية تحكيها.
حيادية الروائي
في شخصياتك تضعين فلسفتهم ورؤيتهم وتأملهم للحياة كلا بحسب طريقته، كيف تحولت من روائية إلى محللة نفسية؟
بعيدا عن النظريات، فإن أي رؤيا في الحياة هي فلسفة، للأمي فلسفته، للمثقف، للفلاح، وأية رواية هي حياة لبشر يحملون رؤاهم وفلسفاتهم في الحياة، ينفعلون، يكذبون ويحلمون، شريرون وخيرون، تستطيع أن تطرح فلسفاتهم، وما يريدون (هم) قوله، حتى وإن كنتَ أنت الذي تحركهم على الورق. دورك فقط أن تمنحهم الحرية في التعبير عن أصواتهم والبوح بأسئلتهم لا أكثر، وعليك كروائي أن تفعل ذلك بكل حيادية.
(متعة الاحتراق)
نصوصك محملة بالشعر بالتأمل، صاخبة بالحياة بوعي مناسب، كيف تلتقطين شخصياتك، وتلبسك لهذه الشخصيات هل يستنزفك؟ --
نعم الرواية استنزاف، لكنها استنزاف مقدس، الرواية متعة الاحتراق، ولذة الحمى، وعظمة الهذيان، أما شخصيات الرواية فليست بحاجة للالتقاط، إنها تعيش معنا وبيننا، "مريم" بطلة "النص الناقص" والتي اتهمت قسرا بالجنون وأودعت مصحة عقلية، هي كل "مريم" في "العباسية" بمصر، و"العصفورية" بلبنان، و"الماحي" بالخرطوم، أما "إيشي" فهي واحدة من مئات الإيشيّات اللائي تحولن في مجتمعات
القهر من أستاذات إلى خادمات منازل، يحملن بدل المؤهل إعاقة نفسية، هنا أو في "تيجراي" أوفي الصومال، وإن صديقها "احبيّب" الذي اعتلاه الفتوّة "توكة"، هو جاري في "سبها" وصديقه في "بو غريب"، وهو ذاك "الفنزويلي" التائه على أرصفة "كاراكاس"
"تفاصيل الشخصية المهمشة"
تعيشين تحولات مميزة فنية في نصوص رواياتك، مع القدرة على السرد تناسب وعي الشخصيات، كيف امكنك ذلك؟
الشخصية في تصوري هي أساس العمل الروائي، وتفاصيل الشخصية المهمشة والمسحوقة هي ما يشدني، والتقنية الفنية لمعالجة الشخصية هي التي تحقق التميز الفني للعمل الروائي، كل همي توجيه عدسة الرصد وأضواءها إلى الشخصية تحديدا، ربما يختلف معي في هذا بعض الكتاب، مولين أهمية تأثيث المحيط، لكني لا أحب أن يكون ذلك على حساب الشخصية.
"وجوه كثيرة للشعر "
قيل عن رواية "اللي قتل الكلب " غيمة شعر تحلق عاليا، وصنفت إنها رواية شعرية او قصيدة روائية، هل هو الحفاظ على قولبة الرواية على حساب الشعر؟ وهل يقلقك الشعر..؟
رواية "اللي قتل الكلب" هي توظيف للحكاية الشعبية (اقتلوا اللي قتل الكلب)، وهي تخيلية (الزمكان)، وكل أسماء شخصياتها وصفية اشتقت من كلمات السرد، أما لغتها فشأنها شأن لغة أية رواية فإنها تتغير من موقف لآخر، ومن شخصية لغيرها لتلائم وظيفتها. أنا لست شاعرة، وكل مبدع لابد أن يلتقي مع الشعر في وجوه كثيرة، واللغة الشعرية في الرواية تأتي عفوية وقد تصلح لموقف ولا تناسب غيره.
"الفرار بالأسئلة إلى الأسئلة "
هل الكتابة خلاص، والوطن، هل يثقلك بالكتابة عنه؟
الكتابة هي الهروب من القلق إلى القلق. هي الفرار بالأسئلة إلى الأسئلة. هي خلاص لا ينتهي. والوطن في عيون كل شخصياتي ولسان حالهم، وهل الوطن غير أنفاس أهله! لدينا أزمة عقل، وبساطة التفكير سمة المجتمعات الأقرب إلى البدائية العقلية -- رغم مواكبتها للتطور المادي-- وكلما زادت بساطة تفكير الإنسان وسذاجته، تعقدت لديه الحلول والخروج من أزمته.
"نهايات مفتوحة قابلة للتأويل!"
مَن مِن الشخصيات التي هزمتك بصرامتها؟ ومن التي أرهقتك بصمودها؟ وأيها اثقلتك بثرثرتها؟
كل شخصياتي تعاني، كلها مرهقة، ربما "إيشي" اللاهثة توقا وارتباكا إلى "مرزق" المأزومة، أكثرها صرامة وصمودا وتشظيا. أقول ربما.
هل يخيفك قتل شخصياتك ولو بقلم الخيال؟
ــ من حظي لا أنتبه لقتل الشخصية إلا وقد ماتت، ربما موتها لا يحدث تقليديا أو مباشرا، أو ربما لأنه يحدث دون اعلان الموت، "الجليلة" انتهت بانفجار سيارة ولا نعلم مصيرها، "مريم" سُلّمت في صندوق مشمع بالأحمر لم يفتحه أحد، "هيما" هو من يحكي موته، "إيشي" تلاشت من بين يدي "احبيّب". جميعها نهايات مفتوحة قابلة للتأويل، لحظتها أبكي لهول الظلم الذي أودى بها.
"أؤمن بما أكتب"
تقبضين على أدواتك السردية بتميز شديد هل الكتابة حبكة من خيال هارب؟
عندما أبدأ الكتابة، لا أفكر في حبكة أو بناء أو لغة، فقط أكتب ما أحب، وأحب ما أكتب وبشغف، هذا لا يعني أني مطمئنة لجودة أعمالي، أحسبني كاتبة عادية، ولم أصل بعد للعمل الذي آمل. لكن لي ثوابتي، ومؤمنة بما أكتب ويستغرقني كليا
"تعرية الواقع" ...
إلى أي مدى تمارس الروائية التوثيق في رواياتها؟ ـ
الرواية ليست تأريخا ولا هي أرشيفا مباشرا، لكنها تصبح وثيقة هامة فيه دون تعمد إعمال التأريخ، أكتب الواقع كما هو، أعريه بطريقتي الإبداعية وهي التي تفرض عليّ معالجتها الفنية، أنقله دون تزييف ودون انحياز، على المبدع أن يكون نزيها وموضوعيا مثل المؤرخ تماما، وهنا صعوبة الإبداع، الذي يلزمه النأي عن التقريرية.
استطعتِ بحرفية عالية المزج بين السرد العادي والسرد العجائبي والذي حقق تنوعا في الرواية ،،،،ماذا تقولين؟
لا أختار طريقة السرد، أجد نفسي وقد أقحمت فيها. لا أعرف كيف حدث ذلك! في رأيي أن الحياة في مجملها ( بشرا وطبيعة) حركة من الفنتازيا وصورة عجائبية، لكن ألفة الأشياء واعتيادها واستمرائنا لرؤيتها او حدوثها تكسر الدهشة، وتجعلنا نراها عادية .
طرحك لقضايا انسانية هل هو من باب المكاشفة أم ....؟
الإنسان محور العالم، ومهووسة أنا بالقضايا الإنسانية، هي جزء من تركيبتي الاجتماعية ونشأتي وثقافتي الشعبية. لن نصل إلى وعي حقيقي إلا عندما ندرك أن أي انتهاك للفرد هو انتهاك للإنسانية جمعاء، وأن أية استباحة لشعب، هي استباحة ووصمة عار لكل شعوب الأرض.
لديك لغتك الخاصة وصارت رواياتك فنا عصيا، هل هي أهم ركائز نجاح الرواية؟
كتابة الرواية مثل رسم أية لوحة، لكل رسام ريشته وألوانه الخاصة التي يحملها داخله تلقائيا. فيما الابتعاد عن الجاهز وعن محاكاة الغير خطوة مهمة لتميز العمل الإبداعي.
خصوصية المكان "سبها" مسقط الروح ومذاقها الشديد العابق بروائحها هل تتجلى الذاكرة جيدا؟
أكتب عن المكان الذي أخبره وأحفظ تفاصيله، كتبت عن بلادي في بنغازي وطرابلس وسرت مرزق، والإنسان هو الإنسان في أي مكان من العالم، وما "سبها" إلا نموذج لأي مدينة في هذا العالم، ومعاناة الإنسان في "سبها" هي معاناته في "صنعاء" في "بغداد" أو "نواقشوط" أو"أنجمينا". وحتما للذاكرة استبدادها
هل تضعين طقوسا معينة للكتابة؟
لا أعرف غير طقوس رمضان والأعياد، كبرت في أسرة شعبية وحي شعبي، قرأت أول كتبي المدرسية على رائحة فنار الكيروسين، صباحا أحمي وجهي بحقيبتي في مشوار شديد البرودة إلى مدرستي البعيدة، لم تكن لوالدي مكتبة وأرفف، كانت مكتبة والدي عبارة عن حقيبة جلدية مرنة، واسعة وكبيرة، ترتص فيها بضع كتب دينية، وتاريخ الأنساب، ووثائق لشجرة العائلة وملكية بيتنا، وصورنا وشهادات ميلادنا، في الإعدادي أسستُ لمكتبة من ثلاثة أرفف، كبرتُ ولا طقوس لدي، ولكني أعتمد نظام حياة، وتبقى العزلة التامة ضرورية عند الكتابة.
الكتابة،، هل هي نضج؟
النضج يقود إلى كتابة ناضجة
ماذا بعد "إيشي"؟
"إيشي" موجعة، استهلكتني، أتمنى بعدها رواية أكثر انفراجا