حنان علي كابو
ما بين القانون والقصة بدأت تتشكل العلاقة عند عزة المقهور وبمناخ حر يجعلها تنغمس في الكتابة وتنقطع عن كل ما حولها، تحلق بجناحين من خيال، تكتب في كل الأماكن. في الطائرة والسفينة والقطار وفي الطريق وعلى صخرة فوق جبل. على شواطئ كثيرة. في الغابات الثلجية بأصابع مرتعشة وذاكرة بصرية تجيد الالتقاط جيدا.
نقرأ في سيرتها ....
... عزة كامل المقهور. من مواليد طرابلس 1964، ولدت في بيت قانوني وأدبي فوالدها المرحوم كامل حسن المقهور محام معروف ومن رواد القصة القصيرة الليبية، ووالدتها السيدة سهير الغرياني من أوائل الخريجات الجامعيات الليبية ومن مؤسسي مجال الخدمة الاجتماعية في ليبيا. تخرجت عزة المقهور من كلية الحقوق جامعة بنغازي في عام 1985، ثم تحصلت على درجة الماجستير في القانون الدولي والمنظمات الدولية من جامعة السربون بباريس عام 1988. تدربت بمكتب دولي للمحاماة، ثم أسست مع والدها مكتب المقهور وشركاه عند إعادة مهنة المحاماة عام 1990. كاتبة قصة قصيرة، وصدرت لها خمس مجموعات قصصية
فشلوم/ ثلاثون قصة من مدينتي/ امرأة على حافة العالم/ بلاد الكوميكون/ بهلولة حكايا المدينة "… !!!
"علاقة الكاتب بنصه "
كيف خلقت عزة المقهور خصوصيتها كقاصة؟
الخلق مسألة في الغالب مخطط لها سلفا، لذا أنا أميل إلى كلمة الإبداع بدلا من الخلق. الإبداع مصادره متعددة، الهواية، والذات بمعنى الاجتهاد هما جزء من الإبداع، إضافة إلى البيئة والحصيلة المعرفية والاتصال بالثقافات الأخرى وتعدد اللغات وغيرها من القدرات الأخرى. هناك من يملك عين راصدة، وآخر حساسية مفرطة، وثالث قدرة فائقة على الاستماع والصبر أو ذاكرة قوية. هذه القدرات التفصيلية مهمة جدا من وجهة نظري وهي التي تميز ما بين المبدعين.
دعيني أقول لكِ أنه في عملية كيميائية ما، يتفجر الإبداع في الإنسان في لحظة ما، غالبا بسبب عامل خارجي ثم يتوالد.
أما الخصوصية أو العلامة الخاصة بالكاتب فهي مسألة مهمة. أنا ممن يؤمن بأن الكاتب هو وليد بيئته، خاصة في مجال القصة القصيرة الواقعية. وأجمل ما يصبو إليه الكاتب أن يتمكن القارئ من التعرف على كاتبه من خلال نصه حتى في غياب أسمه على النص.
وعلى فكرة، فإن للخصوصية جانب أخر مخفي هو علاقة الكاتب بنصه، أنا أفرح بصدور مجموعتي القصصية كما أفرح بعملية ولادة أخوضها على فراش المستشفى، وهذا الشعور يلخص قمة الخصوصية في علاقتي مع نصوصي.
تميلين في اسلوبك إلى الأدب الواقعي هل على القصة ان تستمد فكرتها وأدواتها من عمق الواقع؟
لا، السرد بشكل عام متنوع وسنشهد أنواعا جديدة بسبب ما يطرأ على العالم من متغيرات خاصة بسبب ثورة الاتصالات والمعلوماتية. لكن القصة القصيرة ارتبطت بالمدرسة الواقعية لا أكثر ولا أقل. أؤمن بأن الإبداع لا حدود له، لذا فإن القصة القصيرة كغيرها من أشكال السرد تأخذ أنماطا متعددة ومن المتوقع أن تتنوع أكثر في عالم متعدد كعالمنا، نحن لم نكتشف العالم بعد، فمنطقتنا تخوض تغييرات جذرية ألهتنا عن التعمق في ثقافات غيرنا وانهكتنا.
"المشهد البصري "
ما الذي يشعل فتيل الكتابة عند المقهور؟
اعتمد في كتاباتي على المشهد البصري الذي التقطه في رواحي وغدوي. قد يشعل فتيل الكتابة مثلا زر ملقي بدرج زجاجي في دكان صغير مهمل، هذا الزر المعروف بالكبسولة أو "الشطي بطي" في لهجة أهل طرابلس أقدح الشرارة في كتابة قصة "شطي بطي". عصفور الشمس الفلسطيني وهو يطير بين الجبال في مشهد جميل دفعني لكتابة قصة "جدي" الذي ولد ونشأ في غريان ثم هاجر وبعد ذلك عاد إلى بلاده. رحلاتي في الغابات الثلجية على مدار ثلاث سنوات أنجبت سلسلة الغابة التي تحت النشر حاليا. لكن بطبيعة الحال هناك عوامل أخرى أحيانا ذاتية أو أحداث حولنا تؤدي بنا إلى الكتابة وأذكّرك هنا أن لدي مجموعتين قصصيتين احداها قصص الثورة (فشلوم) والأخرى قصص الحرب (بلاد الكوميكون) وهي انعكاس لأحداث جرت من حولنا.
"الحواس تحكم على لغة المبدع "
قيل "اللغة وحدها تصنع أدبا "ماذا تقول المقهور؟
الإبداع يتفوق على اللغة، هو أشمل منها. لكن اللغة هي سلاح الكاتب للوصول إلى قارئه. فكم من تجاربٍ عميقة تظل حبيسة الأعماق ولا تُبحر، وكم من بحّار متمرس لا يصل. المبدع يحتاج إلى اللغة -باعتبارها أداة للمعرفة بما فيها من إشارات ورموز-لكنه يصنع لغته التي هي جزء من ابداعه، كما وأن اللغة تصنع أدبا راقيا. ما القصة إلا حكايا والكل يحمل في قلبه وعلى ظهره حكايات، لكن الحكايا تصل حين يتفنن الكاتب في خلطة اللغة ويقدمها إلى القارئ جميلة سلسة أو عميقة معقدة أو صريحة أو غامضة أو خليط من كل ذلك لكنها في كل الأحوال هي (اللغة) من تجعل النص أبدي يتنفس.
حين أقول إن لكل كاتب لغته، فإن اللغة أيضا كاشفة عن عمق وثراء وقدرات الكاتب، وعن حصيلته واستقلاليته. الكاتب الذي يستعير لغة غيره كالملحن الذي يعزف مقطوعة بها جمل موسيقية تشبه الحان الآخرين... الحواس تحكم على لغة المبدع وحكمها في الغالب دقيق.
"غياب المحرر المهني "
لكل مرحلة تخضع لتطورات كيف يمكن للقاص ان يجدد ادواته التعبيرية؟
المراس والتمرين مهمان جدا. لست من أنصار برامج "كيف تصبح كاتبا في عام" كما هو الحال في "كيف تصبح مليونيرا في ستة أشهر"، لكنني أؤمن بأن الكتابة تحتاج إلى جهد ومواصلة ومران. أحيانا أشعر بأن ما كتبت منذ زمن لم يعد يشبهني، لكنني سرعان ما أستعيد الصلة به.
ما ينقصنا في ليبيا هو دور المحرر، وهو دور مهم ولازم. فالكاتب لا يجد عادة محرر مهني يعطي رأيا محايدا ويناقش الكاتب في نصه قبل النشر. هذا الجانب المهني مفقود. لذا، نجد الكاتب يستعين قبل النشر بزملائه من الكتاب أو المقربين أو القراء للرأي.
كما أن الكثير من دور النشر تفتقد توفير المحرر لمراجعة العمل. نحن بحاجة لهذا الدور الذي يضفي مهنية على النص.
"فجوة بين المبدعين والدارسين "
تجربتك مع النقد هل أثرت في أسلوبك القصصي؟
لم يعد دور النقد في ليبيا كما كان عليه في السابق. تفتقد الساحة الثقافية في ليبيا اليوم للنقاد الذين رحلوا دون أن يملأ مكانهم إلا القلائل. حتى الكتاب لا يتناولون انتاج بعضهم بالدراسة والنقاش. وهو أمر نفتقده كثيرا.
كما نلاحظ البون الشاسع ما بين الإبداع والمؤسسات التعليمية – وتحديدا الدراسات العليا في الجامعات-التي يتناول فيها الطلاب على مستوى التخصصات العليا الابداع الليبي دون تواصل مع الكاتب أحيانا أو دون أن تنشر هذه الرسائل لتوضع في ادراج الكليات أو تهمل.
أتذكر الصحفية والأديبة نعيمة العجيلي حين أعدت رسالتها لنيل الماجستير عن كتاب "محطات/ سيرة شبه ذاتية" لوالدي كامل المقهور رحمه الله، زارته في مكتبه عديد المرات وأجرت معه لقاءات، فكانت رسالتها حول السيرة الذاتية في الأدب الليبي مميزة، لكنها للأسف لم تنشر. هل هناك أثمن من أن يكون المبدع حيا بين قرائه والنقاد والدارسين يتصلون به ويتواصلون معه.
يؤسفني أن كتابا مهمين بيننا اليوم كالأديب المثقف منصور بوشناف لا يحاضر في طلاب الدراسات العليا، وكيف لا تستضيف اكاديمية الدراسات العليا والجامعات الكاتب والقاص والمترجم عمر الككلي، أو القاص الأديب أحمد يوسف عقيلة أو الأستاذ عبد الله الغزال والأستاذ محمد المسلاتي أو الروائية د. فاطمة الحاجي ونجوى بن شتوان وعائشة الأصفر وعائشة إبراهيم وغيرهم ...وأنا هنا لن اضع كل الأسماء، فقط البعض ممن اسعفتني بهم الذاكرة. لماذا هذه الفجوة بين المبدعين والنقاد والدارسين المتخصصين... طالما أنهم بينكم، فكيف لا يكونوا معكم في مسيرتكم التي ستكون أجمل وأصدق وأثرى لو كانوا فيها معكم.
"في ليبيا الترجمة تكاد تكون معدومة "
الأدب الليبي بدأ يأخذ حضوره سواء قصة أم شعر أم رواية ونقد ايضا ...ماذا تقول المقهور في ذلك ؟
لا اتفق مع كلمة "بدأ" في السؤال. لا توجد بقعة جغرافيا على وجه البسيطة خالية من الأدب. فالأدب أكسير الحياة، ودفق المشاعر. وحيث يكون الإنسان، تكون المشاعر. أنا أتكلم عن الأدب بشكل عام دون الصاقه بجنسية معينة أو تجنيسه بالتأنيث أو التذكير أو انتمائه ثقافيا أو جغرافيا. وهنا من المهم جدا العناية بالترجمة. فكيف يمكن للأدب الليبي أن يشارك في المحافل الدولية (لا أقصد المسابقات) وأن يجرى حوله النقاش والدراسات دون أن يكون مترجما. والترجمة هي مهنة ترتبط بالإبداع وحبذا أن تكون من الليبيين ذاتهم. هذا الجانب غائب لولا بعض المحاولات الفردية.
ما يلفت انتباهي مثلا أن دولة مثل هولندا حيث لغتها قاصرة على أراضيها وبعض مستعمراتها السابقة تنشط فيها حركة الترجمة بشكل كبير. في ليبيا الترجمة تكاد تكون معدومة.
لا يخفى انحيازك لطرابلس ،هل هو حنين أم كونها مدينة تفوق كل المدن تأثيرا؟
كل المدن جميلة. فما بالك بالمدينة التي ترعرعنا فيها. أكلت حبات التوت من أشجارها، ولعبت في أزقتها، ودرست على مقاعدها، وسبحت في بحرها، وشهدت تحولات تاريخية واجتماعية مهمة فيها. الحب والارتباط الطبيعي ببقعة ما ليس انحيازا، بل مسألة طبيعية في غاية البساطة، وبهذه البساطة كتبت عنها. أنا مثلا كتبت كثيرا عن حي الظهرة وقد يأت من يقول لي هل الظهرة أجمل الأحياء؟ بالنسبة لي نعم لأن ما أن ادخل هذا الحي حتى يجذبني الحنين ويفيض في قلبي، والدي وأجدادي وأعمامي وأقاربي يتوسدون جبانة "سيدي بوكر" أعرف أماكنهم المتجاورة. كانت عمتي خديجة رحمها الله تردد وهي تجلس في السيارة إلى جواري ما أن نصل إلى حي الظهرة " ما ترد فيا الروح إلا فيها" ما أجمل هذا التعبير حتى وإن كان غير حقيقي.
كتبت عن مدن أخرى عشت فيها، أو زرتها. لكن قد يكون الأجمل ما كتبت عن طرابلس.
"في الأزمات الكتابة طوق نجاة "
عشت ارهاصات الكتابة دون وعي ،ماذا منحتك الكتابة القصصية ؟
الكثير. في الأزمات الكتابة طوق نجاة، وفي الرخاء متعة الولادة. وأجمل وأثمن ما منحته لي حب القارئ لما أكتب أو التأثير فيه عبر نص قصير. قابلت شخص ذات يوم في الشارع، أوقفني وقال لي، قرأت قصة "تبروري" فقررت العودة إلى طرابلس بعد اغتراب. لابد أنه كان يفكر في العودة قبل قراءة القصة، لكنها قد تكون سارعت في عودته. لا أدري؟ كما جاءني أحدهم وقال إن جمعا من الرجال في جلسة قرأوا قصة " خبزة حوش" فمنهم من بكى لغياب امه، ومنهم من سارع للذهاب إليها وتفقدها والتعبير عن محبته لها.
ليس أجمل من مرافعة مقنعة ومؤثرة في جلسة أمام القضاء الجنائي تسفر عن حكم بالبراءة، إلا قصة تخترق وجدان القارئ وتجعله أكثر إنسانية.
"مناخ حر بعيدا عن القيود "
متحررة من طقوس الكتابة هل هو خوف من القيد؟
عشت في مناخ حر ولا أحب القيود. كتبت في كل الأماكن. في الطائرة والسفينة والقطار وفي الطريق وعلى صخرة فوق جبل. كتبت على شواطئ كثيرة. أحب الكتابة في غرفة الجلوس بين بناتي، انغمس في الكتابة لحد أنني لا اتجاوب معهن رغم ضجيجهن من حولي. لا أخفيك إنني مررت بتجربة غريبة وهي الكتابة في الغابات الثلجية بأصابع مرتعشة سرعان ما أخفيها مجددا داخل قفازاتي. ما يساعدني على الكتابة هو جوالي، لم نعد بحاجة إلى ورقة وقلم.
"نحن بحاجة لسماع صوت الآخر فيما نكتب "
تم الاحتفاء بك من قبل منابر إعلامية وثقافية ماذا يعني لك؟
الاحتفاء دوما مبادرة جميلة، فيها تعاون وتعاضد واهتمام. تطل عليك فيها وجوه مبتسمة وقلوب صافية، حضرت إليك لتقابلك وتستمع إليك وتشارك.
والأهم بطبيعة الحال ما يصاحب هذا الاحتفاء من قراءات نقدية أو انطباعية وما يتخلله من نقاش.
نحن دائما بحاجة إلى سماع صوت الآخر فيما نكتب. هذه القراءة التي تفاجأنا وتجعلنا تحت سطوة القارئ خاصة المتخصص، فيها لذة المفاجأة والاندهاش والاختبار.
"القارئ بوصلتي "
وصول روايتك "امرأة على حافة العالم "لقائمة القصيرة لجائزة الدكتور عبد العزيز المنصور. ماذا يعني لك؟
لست من أنصار الجوائز أو السعي إليها، طبيعتي ليست تنافسية ولا أحب التوسع في العلاقات. أؤمن بإن التميز يحتاج إلى جهد، ولكل مجتهد نصيب. جائزتي الحقيقية هي القارئ، أحب أن اشعر بنبضه، هو بوصلتي. هذه الجائزة تخص الناشر وهو الذي دفع مشكورا بالمجموعة إليها بعد موافقتي بطبيعة الحال.
"تمرد أبطالي "
كيف هي علاقتك بأبطال قصصك؟
ودودة. لكنهم يتمردون عليّ أحيانا... ويعجبني هذا التمرد. قصة "القطوس"، كتبتها وفي رأسي فكرة مسبقة عن أحداثها، لكن "القط" تمرد عليّ باكرا وكتب قصته من نابولي إلى طرابلس ثم إلى مدينة إسبانية.
"أطير بجناحين من خيال "
ما الشخصية التي اتعبتك أثناء الكتابة؟
تجهدني كتابة المقالات القانونية وليس القصص التي عادة ما استمتع بكتابتها. قد يخذلني المكان وأفقد تفاصيله خاصة في حالة الابتعاد عنه، حدث هذا معي في قصة "المحجوب" التي لم أكملها إلا بعد أن زرت المكان (مراكش) مجددا. في قصة "الشيخ حمد" كان عليّ أن أكرر زياراتي إلى المدينة القديمة خاصة حارتي اليهود في محاولة لتخيل المكان منذ أربعين عام خلت.
بعض القصص أيضا تحتاج إلى عملية تقصي وبحث وقراءة. لكن كل هذا استمتع به. لا أشعر عند كتابة القصة بالثقل أو القلق، كل ما في الأمر أنني أنقطع عما حولي وأطير بجناحين من خيال.
هل على القاص ان يعقد صداقات مع أبطال قصصه؟
هناك علاقة ما. لا يشترط أن تكون صداقة. تأتي هذه العلاقة بشكل طبيعي في حالتي وغالبا هي شخصيات متعددة أو مركبة داخل شخصية واحدة، وهنا تظهر القدرة الإبداعية على التخيل والتي هي عامل أساسي لنجاح القصة. كثير من شخصيات قصصي تجتمع فيها أكثر من شخصية، فيظهر البطل مجسدا لكثيرين سواء في مظهره أو طباعه، ورغم هذا فالكاتب البارع يشق طريق كتابته دون أن تتوه منه الشخصية.