الأمن حاجة ماسة للمجتمعات بغض النظر عما لديها من تقدم وتطور، فأي كان تقدمها وتطورها ومستواها الثقافي والمعيشي لا يمكنها أن تستغني عن الأمن والاستقرار؛ فبدونهما لا يمكنها التقدم والتطور، وإن زعزعة الأمن والاستقرار للأمة يؤدي إلى استنزاف طاقاتها وجهودها فيما لا يعود عليها بالنفع.
والسؤال على من تقع مسؤولية حفظ الأمن والاستقرار؟ فالمجتمعات البدائية أوجدت لنفسها حل يناسب ظروفها ومدى تقدمها الحضاري، وهو ما يعرف اليوم "بالفزعة"؛ أي المسؤولية الجماعية، فعندما تتعرض الأمة للخطر، لأي سببا كان، تعلو الصيحات وتدق الطبول معلنة عن وجود خطر يهدد أمنها واستقرارها.
ولكن الفزعة لم تعد أسلوب مجدي، في المدن الكبرى والممالك والإمبراطوريات الشاسعة مع استخدام الأسلحة الحديثة وأساليب متقدمة في القتال، بالإضافة إلى أن الفزعة تستوجب استنفار كل أفراد الشعب القادرين على حمل السلاح، الذين يقع على عاتقهم عملية الإنتاج، فتتوقف الأعمال وتضيع المواسم والمحاصيل؛ وقد تتعرض الأمة للمجاعة وما ينتج عنها من سلبيات.
إذ أن الشعوب القديمة كانت تعتمد في حياتها على إنتاجها، وأن تبادل السلع والتجارة عبر الحدود والبحار لم تكن بالتطور الذي نعرفه اليوم. لذلك بدأت الضرورة ملحة لابتداع طبقة جديدة يسند لها حفظ الأمن والاستقرار توفر البيئة المناسبة للعمل والإنتاج.
وتذكر المصادر التاريخية أن أول من أجر إصلاحات على الخدمات الدفاعية؛ هو الإمبراطور الروماني أغسطس قيصر قبل الميلاد فبعد أن كانت الإمبراطورية تعتمد على استنفار كل فئات الشعب لإدارة صراعاتها حفظ وجودها، من الزوال والاندثار، وما لذلك من آثار سلبية. فهذه الإصلاحات أدت إلى بروز مظاهر جديدة، وضعت أسس العسكرية الحديثة التي نعرفها اليوم.
والتي تستوجب تفرغ جزء من أفراد الشعب للخدمة العسكرية، يدفع لهم مقابل ذلك مرتبات من مخصصات الضرائب والغنائم، واستبدال الخيام بالقلاع والحصون والمعسكرات وتعين قادة من بينهم وتوفير السلاح والتدريب لهم، بعد أن كان في السابق كل مقاتل عليه أن يتدبر سلاحه ومؤونته أنشئت المدارس العسكرية للتدرب على استخدام السلاح.
وظهرت التقاليد المميزة للشخصية العسكري كالشجاعة والتضحية والانضباط والصبر والطاعة، واتخاذ الإشارات والرتب والعلامات المميزة، والزي الموحد، وظهر للوجود القادة العظام والمفكرين العسكريين والنظريات العسكرية، وأساليب القتال، ومصطلحات عسكرية كالدفاع الاستراتيجي وحروب الاستنزاف والحرب الخاطفة...الخ.
ومن ضمن الإصلاحات التي قام بها الإمبراطور أغسطس؛ هي منح الجنسية لمواطني المستعمرات مقابل أداء الخدمة العسكرية ربما هذا أصبح تقليد متعارف عليه إلى اليوم أن الخدمة العسكرية لا يقوم بها إلا مواطني الدولة من الجنسين، ولا تفرض على سواهم من المقيمين. وإن حدث واستعانت الدولة بغير مواطنيها وفي ظروف خاصة فإن هؤلاء لا يتقلدون مناصب في القيادة ويتم تسريحهم بمجرد أن تنتهي مهمتهم.
وقد أطلق على هذا التنظيم عدة مسميات، وذلك حسب عقيدة الدولة كالجيش الوطني، جيش التحرير، جيش الدفاع، القوات المسلحة .... وأصبحت وزارة الدفاع من أهم الوزارات في كل دول العالم، ويخصص لها أعلى ميزانية، لأن الجيش يمثل العمود الفقري للدولة. وأفراده عرضة للخطر، ويعملون في أصعب الظروف بعيدا عن أسرهم وأكفانهم على أكتافهم.
ولكيلا تكون عرضة للأطماع عليك أن تكون قوي لا قوة غير القوة العسكرية الرادعة القادرة على فرض هيبة الأمة وسيادتها على الأصدقاء قبل الأعداء والجيران قبل الغرباء لهذا تتضافر جهود أفراد الأمة لبناء جيش وطني من أبنائها مخلصا في عقيدته ولا ولاء له لغير الوطن لكي يكون هذا الجسم شرعي تصدر التشريعات من الجهات المختصة، تنص على أنشاء الجيش وتنظم عمله وواجباته وذلك إيمانا منها بأنه لا أحد يحمي أمن أحد، وامتثالا لقوله (وأعدوا).
ويمثل الجندي العضو الرئيسي لهذه المؤسسة، وعلى عاتقه تقع مسؤولية حفظ الأمن والاستقرار؛ وهو بمثابة الأعصاب الطرفية للبدن، أول من يحترق وأخر من يستفيد، وإهماله أو المساس به يعرض الأمة للخطر.
وبما أن المهمة الملقاة على عاتق أي جيش في العالم هي من أصعب المهام وهي الحفاظ على بقاء الأمة وعلى هيبتها وسيادتها، وثمن ذلك باهظ، نهيك عن عدم الاستقرار الأسري والعائلي؛ فإن العسكري معرض دائما إما للموت أو الأسر أو الإعاقة؛ وما يترتب على ذلك من آثار سلبية على من يعولهم لذلك أولتهم شعوبهم أهمية بالغة هم وأسرهم.
ولأن أفراد الجيش هم أبناء الشعب فإن الشعوب الواعية والمدركة للأخطار التي تترصدها، لا تبخل على أبنائها ولو كان على حساب قوتها ورفاهيتها في سبيل أن يكون لها جيش وطني يحميها من الاندثار ويحفظ هيبتها وسيادتها.
ومن تجارب التاريخ والواقع الذي نعيشه تعلمنا أن الخطر الذي يهدد أية أمة هو الوقيعة بينها وبين جيشها أو إنشاء قوة موازية له، أو النظر إليه بنظرات سلبية؛ باعتباره بطالة مقنعة، مما يؤدي لضعف قوتها ويجعلها عرضة للأخطار.