إن ظلت الشاعرة غادة البشاري في بعض نصوصها مكابرة تنأى بنفسها عن الاعترافات سواء العامة أو الخاصة فإننا نجدها في نصها (لاَ تُطْفِئِينِي بَغْتَةً) الذي يتكون من أربعة مقاطع قصيرة تتكشف فيه براعة الاستهلال، تملك جرأة الاعتراف منذ سطره الأول بالعشق والهزيمة في آن واحد حين تهتف ذاتها الإنسانية الشاعرة:
(عَاشِقَةٌ مَهْزُومَةٌ أَنَا
قَيْلُولَتِي حَفْنَةُ أَشْوَاقْ
وَقَهْوَتِي مَنْهُوكَةٌ بِمِلْحِ الفِراقْ
فمُذْ تَجَنَّى عَليَّ غِيَابُكَ
ظَمَأَ فِي غَائِلَتِي سَلْسَبِيلُ الدُّنْيَا …!!)
لقد اكتسى الشطر الافتتاحي من (لا تطفئيني بغتة) صورة فنية خلابة في براحها وشموليتها وأفقها، ازدانت بتوالي معزوفة إيقاعية صوتية ظاهرة وجرس موسيقي بارز، إضافة إلى نحيب شجن حزين صامت، وهذا يؤكد ثراء القاموس اللغوي للشاعرة ومهارة إمكانياتها في توظيف مفردات اللغة لرسم صورها الفنية الشعرية الجميلة بكل براعة حسية شعورية ولغوية، وإمكانية التعبير بكل اقتدار عن لوعة الغياب ومرارة الفراق وما يتركه من ندوب في النفس وانكسارات وهزائم في الكيان الإنساني المرهف.
وفنياً نجد الشاعرة تستعين بتقنية التناص في بداية المقطع الثاني بل منذ سطره الأول تحديداً (وعلى حين شهقةٍ غراء) ليتوالى تشكيل الصورة الشعرية كما تتخلق وتنسج في أعماقها بتتابع بليغ مكثف يترأى ذلك بغياب حروف العطف المباشرة، ولكنه تسلسل ثري بمشهدية سردية شاعرية تتراقص فيها اللغة ظاهرياً مبتهجة، ولكنها في بواطنها مبللة بدموع صامتة كما تشي بها خاتمة المقطع الحزينة:
(وَعَلَى حِينِ شَهْقَةٍ غَـرَّاء
تُبَلِّلُنِي رَعْشَتُهَا بِنُكُوصٍ مَهِيِّب
يَتَضَاءَلُ جَسَدُ حُلُمِي
أَسْتَفِيقُ
هُنَاكَ عِنْدَ تُخُومِ المُنْتَهَى
ثَمَةُ بِدَايَاتٍ تَلِجُ الضَّوْءَ لِسِرَاحٍ أَثِيمٍ
ثَمَةُ أَحْزَانٍ لاَ تَلِيقُ إِلاَّ بِي)
وفي المقطع الثالث يتكرر بالنص الإعتراف بشكل غير مباشر وعلى استحياء في بدايته، ولكن سرعان ما يبرز صوت الذات الشاعرة المتكلمة علنياً جهورياً وكأنها فاضت حباً وعشقاً وربما انهزاماً كذلك :
(وَمَضَيْتُ لِلَّتوِ
أَتَوَارَى فِي حُرْقَةِ الزَّهْرِ
مُمِتَلِئَةً بِرَعْشَةِ الحُقُولِ البَارِدَة
وَفَزَعِ الرَّحِيلِ عَنْك
هَكَذَا أَنَا … مَعَ كُلِّ مَسَاءٍ
أَسْتَحِيلُ عَرُوساً
تَرْتَدِي اِحْتِرَاقَاتِ البَنَفْسَجِ
وَتُــزَفُّ إِلَى لَيْلٍ سَفُوحٍ وَثَـنِيٍّ)
وفي الشطر الرابع الأخير تواصل الذات الشاعرة بوحها وسرد مكابداتها وهي تحكي فصلاً أو جانباً من المعاناة التي لم تقتصر على كيانها الإنساني بل طالت حتى ظلها بكل رمزيته، وهو دلالة إما عن طرف آخر يستوطن قلبها أو ربما عن شمولية المعاناة في أبعادها الداخلية والخارجية. ونستبين العتبة الأولى لهذا النص بارزة حين مخاطبتها (لا تطفئيني بغتة) وهي على مسافة سطر واحد من نهاية البوح وخاتمة النص:
(تَتَرَصَّدُنِي .. وَظِلِّي
حكايةُ أفقٍ ابتلعَ عِبَّءْ التراب
فتلعثم إِيَابُهُ عند شِفَاهِ الضوء
وَسَالَ نَحيباً سَخيّاً كَسَكِيبِ دِمَاءِ الشَّفَق
لاَ تُطْفِئِينِي بَغْتَةً
دَعِينِي أُرَتِّقُ عَتْمَتِي عَلَى مَهْلِ ..!!)
هل انتهى النص؟ أم تراه لازال يعتمر في دواخلنا بحثاً عن إجابات لعدة أسئلة يفجرها فينا بشكل علني وخفي؟ لعل أولها من ذاك الطيف الأنثوي المخاطب في هذا النص الجميل الثري بمفردات لغته الرقيقة وجماليات صوره الفنية المتعددة؟ هل هو طيف إنساني حقيقي أو تخيلي أو ربما كيان مادي آخر أم ماذا يا ترى؟
إن النص الذي يترك أثراً أو يدير محركاتِ عقل القاريء للتفكير في أيٍّ من جوانبه، هو المنتمي حقاً لعوالم الإبداع والمحفز على مغامرة الغوص في ثنايا سطوره بعين ثاقبة متأملة، وفك طلاسم دلالات كلماته وصوره الفنية.
(لا تطفئيني بغتة) رجاءٌ وطلبٌ قد يرسله قلب وصوت الشاعرة غادة البشاري مدوياً لصروف الدهر المتداولة في رحلة الكون، أو صوب أيام ولحظات هذه الدنيا المتصرمة والمتبخرة من أعمارنا، أو باتجاه أنساق الحياة كافةً بكل ما تحمله من لذائذ ومتع ورغائب وانكسارات وخذلان وهزائم ومكاسب، ولكن شاعرتنا استطاعت في كل الأحوال أن تبعث في فكر المتلقي حركية وتفاعلاً في تعالق يسمو باللغة والشعر والحياة معاً، ولذلك فهي جديرة بالشعر والمحبة.
يونس شعبان الفنادي
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
طرابلس في 6 ديسمبر 2022م
ملاحظة نص (لا تطفئيني بغتة) ليس منشوراً بديوانها (كعصفور الجنة يبعث حياً)