من المعتاد ان تشاهد فيلما مأخوذا عن رواية وفي الغالب لن تعجب به قدر الرواية او هكذا على الاقل صرحت بعض المهتمات بقوة بالادب والحب و الكتابة ولعبة البرستيج المجتمعي المتكررة ؛وقد لا تستطيع لومهن فعلا حصل معي جدا بالرغم من عدم اهتمامي بالبرستيج ان شاهدت افلاما سيئة مأخوذة عن روايات ذلك يحدث ايضا، لكنني هذه المرة وجدت الأمر مختلفا فالفيلم محمل بالكثير ملئ بمفاجئات تجعل حظه في الاعجاب وافرا بالتأكيد ؛ اقصد هنا فيلم الشيخ والبحر للروائي الامريكي المشهور ارنست همنغواي والفيلم من إنتاج سنة1958م والرواية ظهرت بكتاب في 1952م ومن إخراج جون ستورجس.
ومنذ منظر عودة الصياد كبير السن وحيدا في قارب شراعي صغير كأخر صياد يعود إلى القريويين.
وربما يكون سبب توهم ان الرواية دائما أجمل عدة اسباب متعلقة بنفسية القارى وهي بالتأكيد تختلف عن نفسية المشاهد ؛ فانعدام وجود صورة كاملة مجسدة في الكتاب يعطي القارى براحا كافيا لتشغيل خياله و ربما حتى ان يصبح هو نفسه بطل الرواية فيتحدث باسمه ويحس ببعض احساساته اذا النص في مستوى جذب القارئ.
وهذه الرواية كصاحبها مشهورة و عالمية وهذا قد يعني انها استنفذت كتابة ونقاشا لكنني أزعم ان الفيلم لايزال يحتمل مقاربات واسعة متعددة ؛ وأنه فيلم رائع كالرواية او قريبا من مستواها.
وهنا ادعي انه تسميته الصحيحة و ترجمته هي الشيخ و البحر إذ ان سانتياغو الصياد الكبير في السن ليس فقط كبيرا في السن بل هو كذلك عميق التجربة في الحياة يحتمل منذ اول عشر دقايق شماتة بعض سكان قريته فلا يلقي لتحرشاتهم الكلامية بالا ويتعمد نسيانها ملتفتا إلى احاديثه مع المراهق مانولو الذي رافقه في رحلات صيده منذ أن كان في الخامسة من العمر حيث واجها معا خطر الموت عندما حطم الحوت القارب ولولا براعة الشيخ الحكيم مانجيا...!
وبعد أن تكرر خروج سانتياغو الحكيم القوي الذراعين حتى هذه السن لدرجة ان بمقدوره ان يصرع شابا موفور الصحة في ريعان شبابه.
بعد أن خرج في عدة رحلات صيد طيلة أربعة وثمانين يوما فإنه لم يعد بسمكة واحدة ماجعل القرية تعتقد انه صياد منحوس يلازمه الحظ السي فبادر والد مانولو بسحب ابنه منه والحاقه بمركب اخر لكن مانولو نفسه حريص على مواصلة الاتصال برفيقه وبحكاياته عن البيسبول وعن ابطالها. مرارا وعلى ان يعيد حكايات رحلاتهما معا وهو طفل مرارا والشيخ الوحيد يتسلى بهذه الرفقة الهينة المعتادة أيضا.
القرية التي يعطيها الفيلم دورا اكبر مما اعطتها الرواية هي قرية حقيقية وصل إليها ارنست همنغواي حوالي العام1947م قرب هافانا في كوبا ومارس الصيد وهو من هواياته المعروفة بحرا وبرا وجبلا مارس الصيد فيها وفيها عثر فعلا على شخصية سانتياغو هذه...الادب حيث يتصل بالحياة والواقع يحدث أثرا في نفوس ملايين الناس تلك نتيجة أولى لابد من قراءتها مرارا والا اختار الكتاب نماذج كئيبة تعيش داخل جدران الخيال وتموت هناك دون أن يطلق قارى ما سراحها وتلك خيارات الكتاب .!
ثمة مسار ثاني ومسار ثالث رسما المشهد الكامل للفيلم فقد اعتمد المخرج على أحداث تنقلات محسوبة اكثر تداخلا من النص المكتوب بين رحلة سانتياغو في البحر والقرية واحداثها أثناء غيابه اللافت للنظر ...
عبر مسارين فرعين لما يكونا موجودين في الرواية اصلا بل ان توزيع الحكي في الرواية مختلف كثيرا عن الفيلم ففي الفيلم زاوج مسار الكاتب مسار الصياد المسن بينما لعب مسار البنت ابنة سانتياغو التي تحضر وتذهب بين هافانا والقرية مع مانولو مسارا استخدمه المخرج في تقطيع رحلة الصيد وزيادة مستوى اثارتها عبر لعبة التوقعات..والحضور النسائي نفسه زوجة الكاتب وابنه الصياد لم يكن له أثر او وجود في النص المكتوب اساسا إنما اقتضته كمشاهد عودة الصيادين البانورامية في البحر إلى شط القرية اقتصته معطيات الفرجة السينمائية الواسعة و المؤثرة ضمن محاولة التقاط أجواء الكارييي الساحرة وحركة الناس الصيادين في القرية الفقيرة....بينما بذل همنغواي جهدا خرافيا مذهلا على جبهة الورقة جعل الرواية ممتعة بطريقتها...وذلك مكانه عند العودة الى ماسبق وكتبته عن الرواية ولم انشره بعد في غمرة تنقلاتي الدائمة بين أمواج الادب الامريكي العاتية وأدب روسيا الحي المعبر ..!
اختفت هنا ذكرياته عن البيسبول كثيرا و بقي فقط القليل منها..وذكرياته عن ليلة غرائبية قضاها يصارع شابا اخر ضخم الجثة في ميناء في أقصى الطرف الآخر المحيط في المغرب...وانتهى الفجر بفوزه....!
ذكريات رجل متعب الجسد عن ايام زهوه القديم الذي تبقى منه قوة ساعده فهي أداة ابحاره وصيده الأساس، أو ذكرياته مع زوجته وزفافه....
في الدقيقة الثلاثون من الفيلم تظهر الفرصة تحت الماء للصياد الشيخ ...؛بعد أن خلف الصيادين اقرب إلى القرية يصطادون اسماكا صغيرة الحجم في قناعة تشبه قناعة كل الفقراء العادية الحفاظ على الجهد والخوف على المركب من تيارات الخليج خليج المكسيك فيما توغل هو إلى حيث الفرص الضخمة والاسماك الضخمة الكبيرة حيث التحدي وإثبات الذات حتى في عمر متقدم جدا...
لاحت فرصته سمكة مارلين اكبر حجما حتى من قاربه الشراعي واقتربت منه والتقطت شسصه الملغوم بحبل الصيد ....لا ليفوز مباشرة بل ليصبح في لحظة مضطرا لا إلى ملاحقة اشاعات سوء الحظ الذي يلازمه فقد ايتسم الحظ لكن أمام مشكلة الحجم الضخم الذي في آخر خيط الصيد الذي يمسكه هو على القارب بيديه؟!
ماذا سيفعل أمام التحركات العاتية المتوقعة السمكة الضخمة؟
لا يملك الا حيلة مجربة من قبل يملك ان يستسلم لها يحافظ على اخر الخيط في يده ويمد لها فيه فتنزل دون أي مقاومة وتسبح تحت الماء جارة القارب معها دون أي مقاومة منه...تستمر رحلة الجر هذه يومين كاملين قطعها المخرج ستورجس بمشاهد صراعية تجري بين الكاتب الذي يلاحق بفضول حكاية البحار الشيخ في القرية متنقلا يسأل عنه وبين زوجة هذا الكاتب التي أكلها الملل من القرية الواقعة...
وتظهر هنا مشكلة عجز الكاتب عن الكتابة في مشابهة لحجز الصياد عن الصيد وعن سوء الحظ الملازم لكن الزوجة في لحظة صراع عاطفي ومصارحة تعتبر سوء الحظ مجرد مبرر للفشل...
حكاية الزوج و زوجته رفعها المخرج او السيتاريست وهو ليس همنغواي نفسه بل اخر رفعها إلى درجة ان جعلها في مستوى محاكاة الحكاية الأصلية للصياد الشيخ هنا صراع لطيف وهناك صراع عنيف هنا عند الكاتب سوء حظ يلازمه في العمل تماما كما الصياد وهنا ايضا
رغبة الفوز المجنونة حكايتين عن عالمين متوازيين تماما في فيلم واحد...ربما لضرورات العرض في هوليوود..
لكن ثمة دائما جمال في حكايات الكاريبي..
قبل خوضه هذا الصراع العنيف المادي وليس المعنوي الصراع الذي اعتمد على قوة يديه وخبرته ومعارفه عن الأسماك وسلوكها وعن البحر وقوانينه تلقى الصياد عرض تقاعد مريح في هافانا رفقة ابنته وعائلتها و لكنه رفض و أصر على البقاء في القرية و خوض الصراع اليومي ضد السمك الضخم الكبير وضد سوء الحظ الملازم...كل علامة في هذه الرواية تسجل ظهور الإرادة قوة الإرادة العنيفة عبر رغبة شيخ صياد في مواصلة عمله المعتاد الفوز الدائم على السمك الضخم وظروف البحر ...!
وكثافة الصراعات في الفيلم الصراعات المعنوية ضد الابنة ضد الوحدة ضد الشائعات ضد الاستفزاز ضد الجوع ضد العمر وضد التعب يختصره فرح الصياد عند الدقيقة الثامنة والخمسين من الفيلم حين تصل رحلة المارلين الضخمة إلى نهايتها تحت الماء بعد يومين كاملين من جرها القارب ومحاولات الشيخ للتماسك و المرونة بالرغم من عمره ترهقه تصل رحلة المارلين نهايتها الأخيرة فتصعد إلى أعلى شاقة سطح البحر بمنشارها الطويل ضاربة السطح بالجسم الضخم والصياد العتيق يستنج حالتها فهو الخبير الذي جاء أليها قصدا تاركا بقية الصيادين ينعمون بالسمك الصغير السهل ...ثمة في كل ثانية في هذه المعروفة السينمائية علامة دالة علامة فارقة وليست عادية ثمة شي مؤكد يقف خلف المشاهد ويحركها إرادة الفوز الغلبة ارادة القتال ضد الظروف والانتصار عليها ارغامها على صرف الحظ السي بعد أربعة وثمانين يوما من الفشل ثمة ارادة لقهر الفشل..!
هذه الإرادة ليست شيئا عابرا انها تختلط بجسم و دم اي انسان وكل انسان لا أحد يحب الفشل ولا احد يحب سوء الحظ لكن مقدار المقاومة هو علامة قوة الإرادة وهنا تتجسد صورة قوة ارادة سانتياغو ذات الطابع البدائي الغريزي بكل روعتها وجاذبيتها للمشاهد ثمة افلام تنقل اليك هذه الرغبة في الفوز عبر مباريات حارة او مبارزات بالسيف او بألعاب القوى والكاراتييه او بالجيوش الجرارة او بالخطط والتكتيتكات وهنا نقلت بهدوء عبر صراع شيخ متعب الجسد ضد جملة من الظروف وضد سمكة مارلين ضخمة يصل حجمها إلى الف وخمسمائة رطل يضربها بسهم عند اقترابها فتموت اخيرا ...ويلصقها بجانب قاربه فهي أضخم من القارب وثمنها يقوق الاربعمائة دولار في السوق ...
ثمة هنا ارادة متوحشة قاسية تقاتل ظروف الحياة الصعبة تلك حكاية كل الفقراء يوميا...القتال على محور المعيشة لأجل المعيشة نفسها أليست هي نفسها من يدخلها اي رب أسرة ليبي حين لايجد حلا الا ركوب سيارته المتهالكة والجولان إلى نصف الليل بالرغم من العمر والجسد ليطعم اهله ؟!
تمضي رحلة عودته عادية مع الالف وخمسمائة رطل والاربعماىة دولار المتظرة حتى الدقيقة السابعة بعد الساعة الأولى لينطلق صراع عنيف اخر للحفاظ على المكسب الذي غدا بين يدي سانتياغو فالحوت يطارد القارب الصغير بل يضربه بقسوة ليفتك المارلين منه ..
عند الدقيقة الثالثة والعشرين يصل قارب سانتياغو كاخر قارب بعد كل الصيادين ...فيه فيهرول اليه رفيقه مانولو وابنته...وكل أهل القرية ليعيش مجد وبطولة تعترف بها كل القرية حتى الشاب الذي سبق واعتبره سي الحظ يعلن على لسانه ان هيكل المارلين العظمي هو أعجوبة وان سوء الحظ قد انصرف ...وتلاشى ويغدو سانتياغو إلى كوخه الصغير ليستريح..