لاتزال ذاكرتي تدغدغني بمشاويري المزدانة بالفرح نحو مكتبة زهرة البستان القريبة من بيتنا بحي سيدي حسين، وما زلت أتذكر دهشتي الأولى حين فُتِحت هذه المكتبة وكيف أنني ارتبكت عند دخولها أول مرة لتصبح فيما بعد وجهتي الدائمة فلا يفصلها عن بيتنا سوى عدة خطوات فكنت أجمع مصروفي لأشتري منها الكتب وكذلك الجرائد والمجلات، ومن هذه المكتبة بدأتُ بتكوين مكتبتي الخاصة وإرضاء شغفي بالكتب، ولكن الأيام تتوالى لأجد نفسي أقطن في أقصى المدينة، أخطط لمشوار المكتبة وفقا ًللظروف وأحيانا بعد نشر إحدى المكتبات لعناوين جديدة مغرية أو حاجتي لكتاب لا أملكه أختلس من وقتي والتزاماتي لأمرر مشواراً نحو المكتبة رغم الظروف، فهل يتفق معي عاشقو الكتب في مشاوير المكتبات وعلاقتهم بها؟. تقول الكاتبة ميسون صالح: أحيانا أشعر أن علاقتي بالكتب والاقتناء علاقة مرضية لكن في حالة صفاء انتبه أن هذا ما يحاول الجميع غرسه في رأسي توصيفاً لحالتي، وما هي إلا علاقة عشق وهيام وهل يكون الحب إلا بالرغبة الجامحة في الاقتناء والشم واللمس وتتبع الأخبار وهذا ما يحدث بيني وبين الكتب، فكنت قبل ظاهرة نشر الكتب الجديدة على السوشيل ميديا سواء من دور النشر أو من المكتبات المحلية أخصص يوماً في الشهر إذا توفرت الإمكانات لزيارة مكتبة ما والتزود ببعض الكتب واكتشاف جديدها، ومازلت أداوم على هذه الحالة لكن لم يصبح الأمر شهرياً بل متروك للقدرة المالية لأن الحياة استصعبت علينا والكتب زاد ثمنها أيضا، وأنا لا أقوم بتوفير مبلغ من المال أخصصه للشراء إنما وبكل انسحاب من حالة الرشد أحيانا كلما توفر عندي مبلغ من المال أذهب لشراء الكتب ثم أشعر بعدها بتأثير هذا على مصروف باقي الشهر ولا أندم في قرارة نفسي فأنا سعيدة دائما بالكتب وكلما أقول أنني لن أفعلها مرة أخرى أفعلها مراراً بخلاف ذلك. وما الذي يختلف لو أنني أقطن بالقرب من المكتبة؟، قرب المكتبة قد يجعل من عملية الشراء متكررة أكثر بالنسبة لي وقد تزيد من حسرتي في حالة عدم توفر المال. فالحبيب قريب ولا أستطيع تناوله، لكن لا يشكل البعد بالنسبة لي أي مشكلة فأنا أذهب للمكتبة وأخصص يوما ًلذلك أصبح شبيها بالطقس المحبب، كما أن وجود صفحات لهذه المكتبات على الإنترنت وإمكانية إرسال كتبها للبيت مباشرةً خفف من عبء المشاوير وبعد المكان للبعض، وتبقى للمكتبة أهميتها فكل ما أتمناه أن لا يقتصر نشاط المكتبات على الجانب التجاري فقط وأتمنى كما في جميع أنحاء العالم أن نحصل على مكتبة للمطالعة والإعارة ويتوفر فيها كل جديد الكتب فهذه جنة معرفية نفتقدها جدا. ويقول المدون ياسين قرقوم: لا يمكن أن أصف زيارتي للمكتبات بالروتينيّة أو أن أضعها تحت إيقاع ما، زياراتي أقرب ما تكون بالعشوائيّة -إلّا لو كنت بحاجة كتابٍ لغرض الدراسة أو كتابة مقالة تحليلية حول عمل ما- وكقارئ أحب بالتأكيد اقتناء الكتب -خصوصًا التي تكون داخل ساحة اهتماماتي- ووضعها على مكتبتي الخاصة، رغم قراءاتي الإلكترونيّة التي تغلب قراءة الورق، وعندما أكون مارًّا بإحدى المكتبات تشدّني العناوين التي توضع في الواجهة قبل كلّ شيء، وهي التي تجعلني أدخل فيما بعد. من جهةٍ أخرى نأتي إلى سؤالّ يدور في ذهني، هل على أصحاب المكتبات أن يوفّروا الكتب الرائجة فقط كونها منتشرة وستحقق الأرباح، أم أن الموازنة بين الرائج والقيّم معادلة صعبة؟ أميل إلى الرأي الذي يرى أن الكتب الركيكة التي تداعب المشاعر هي المنتشرة بلِ المسيطرة، وأصبحت الكتب الأخرى التي نحتاجها حتى ننعم بقليل من التنوير والوعي -ولو قُدّم هذا التنوير تحت قالبٍ أدبي- شيئًا أشبه بالخيال، والمكتبة الجيّدة هي التي تقدّم للروّاد طبقين، الطبق الأوّل لقارئ التريندات -وهو موجود فعلًا ولا يمكن أن ننكر وجوده- والطبق الثاني تحاول أن تقدّم فيه شيئًا مختلفًا عن الذائقة العامّة، عملًا فكريًّا، أدبيًّا، مترجمًا ... إلخ، ولعلّ الدور الأكبر يكمن منّا نحن العامّة، نحن الذين نحرك كفّة المكتبات، نحن من نقلّب العناوين إذا استطعنا أن نختار جيّدًا وأن نقرأ بوعي، وهذا الذي نطمح أن نراه قريبًا. مع كل التساؤلات التي طرحها كل من ميسون وياسين حول المكتبة ومحتواها والقدرة الشرائية في ظل الأزمات الاقتصادية ومع غياب المكتبات العامة واختلاف عناوين الكتب وأي فئة تستهدف المكتبات من المترددين عليها؟، يبقى سؤالنا عن القرب بين المكتبة وجيرانها؛ هل يشكل فارقاً لديهم؟، وهل يبالي جيران المكتبات بجاراتهم ويصنعون من المشاوير إليها عادةً يومية تشبه ارتشاف فنجان القهوة؟، هل يهتم الناس بوجود مكتبة لبيع الكتب قرب بيوتهم؟، هل يمكن أن ندخر من مصروفنا في ظل الحياة المعيشية الصعبة لشراء كتاب على افتراض أن يكون الشاري مهتما؟، وهل هناك جيران مهتمون؟. وللإجابة على الأسئلة قمت بجولة قرب عدة مكتبات وسؤال جيرانها .... يقول كابتن طيار مفتاح المبروك سعيد جدا بوجود مكتبة بقربي فأنا أحب المطالعة لذا أقصدها دائما لتصفح العناوين وشراء ما تثير اهتماماتي، كما أنني اشتري الكتب لأبنائي، فالمكتبة مهمة ولكن للأسف في وقتنا الحالي لا يوجد قراء وأغلب الذين يقرأون ممن يبحثون عن كتب لبحوثهم فقط حيث الشُراء ينقسمون إلى قسمين مجموعة تشتري لحب الاطلاع ومجموعة تشتري لأجل مشروع وهؤلاء قراءاتهم محددة، كما أكد أن وجود المكتبة أفضل من وجود محل لبيع الدخان. ومن بين الذين قابلتهم الطفلة نعيمة المنفي قالت إن المكتبة "سمحة بكل وفيها قصص مفيدة" فهي تشتري منها دائما القصص كلما تمر بقربها تدخل إليها وإن أهلها يشجعونها على القراءة. أما في لقائي مع بعض الشباب الذين يعملون بالمحلات قرب المكتبة وتتنوع مجالات دراستهم منهم طالب الثانوية ومنهم طالب الاقتصاد وطالب الصيدلة وطالب تقنية المعلومات قالوا إن قراءة الكتب تشعرهم بالملل وأنه لا توجد لديهم رغبة لتصفحها، مؤكدين اكتفاءهم بمنهج الجامعة، والبعض الآخر قال لا يوجد وقت فالعمل في المحل يستنزف وقتهم وحتى عندما سألت بعضهم: ألا يمكن توفير نصف ساعة من وقتكم لتصفح الكتب؛ بدا عليهم عدم الاهتمام . كما أكد على ضيق الوقت إبراهيم المجبري خريج الهندسة النفطية وقال أيضا ماذا نشتري منها وبنوع من التساؤل الساخر قال: هل نشتري كتب تاريخ؟!!!!!!، أما صديقه زكريا الزوي قال: "نقرأ كتب على النت بالجو"، وحين سألته عن نوعها قال مثل كتاب (كن أنت). وقد قابلت بعض الفتيات على وشك الدخول لمحل ملابس وحين سألتهن قالت إحداهن: إنها لا تهتم إذا ما كانت المكتبة قرب بيتها أم لا فهي لا ترتادها على الإطلاق ومكتفية بكتب الجامعة، أما ندى طالبة بكلية العلوم فقالت: أنا نقرأ بعض الكتب وعند مروري على المكتبة نشتري كتب وحين سألتها عنها فذكرت: في قلبي أنثى عبرية، الفيل الأزرق وكتاب اكستاسي. بينما يؤكد فرج الدرسي تخصص مكتبات والذي عمل فترة بالمكتبة أنه لا يوجد إقبال من الجيران على المكتبة فالناس كانت سابقا تذهب إلى المكتبة العامة ولكن الشراء من المكتبات الخاصة تحكمه الظروف المادية، كما أنهم اعتمدوا على التزود بالمعلومات من الانترنت رغم أنها ليست دائما معلومات صادقة حسب قوله. وقالت الأستاذة فتحية الساحلي موظفة بجامعة بنغازي أنها لا تشتري الكتب وأن دخولها للمكتبة لشراء القرطاسية أو تصوير الأوراق حيث أن ظروف الحياة والالتزامات جعلتها لا تهتم بالقراءة والاطلاع. وبينما سراج منير طالب كلية الاقتصاد قال: رغم كثرة تواجده بالمكتبة فهو لا يهتم بذلك ولا يحب القراءة، ويؤكد على ذلك عصام الشريف فني التصوير أنه لا يملك فضول للتصفح وهو لا يدخل إلا لشراء الكراسات والأقلام رغم أن والده لديه مكتبة كبيرة ولازال مهتما بها ومتصفحا للكتب لكنه لم تشده الكتب كما ذكر أن والده لم يطلب منه ذلك على الإطلاق. أما مفتاح الشين المتحصل على ماجستير الطاقات المتجددة قال لا اتصفح إلا في المواقع العلمية المتعلقة بتخصصي وتحدث عن عدم جدوى الكتب الأخرى بالنسبة له بضحكة ساخرة، كما أكد هو أيضا عن اهتمام والده بالكتب. والتقيت أيضا بالإعلامي الرياضي صلاح نجم وهو يشتري بعض الكتب وقد أكد غبطته بقرب المكتبة من بيته فهي عامل محفز لأنها تقع في طريقه يوميا بعيدا عن الزحمة مؤكدا أنه كان يقصدها حين كانت بعيدة عن منزله لكن الأمر اختلف الآن وأصبح الأمر أكثر يسرا، ونوه أنه رغم عدم وجود إقبال كبير على شراء الكتب بعد ولوج عالم الإنترنت والكتب الإلكترونية؛ إلا أنه هناك فئة لاتزال تعشق اقتنائها وتهتم بالمطالعة. إحدى السيدات قالت هي لا تهتم بالكتب لكن ابنتها مغرمة بشرائها وهي تشتري لها حين تكون المكتبة قريبة من وجهتها وهي تضع لها قائمة وضحكت قائلة: اشتريها لها حسب الميزانية. بعض الشباب الجالسين قرب المكتبة رحبوا بي وعبروا بابتسامة عن عدم اهتمامهم بالمكتبة لكن أحدهم قال: أدخلها لأشتري الجريدة لوالدي. فوزي الذي يبدو أنني فاجأته بسؤالي قال: تستهويني الكتب ولكن أنا لا أستطيع القراءة؛ أقلبها وكنت أتمنى لو أنني قادر على قراءتها، بينما أحمد الموظف ضحك ضحكة جلبتها له ذاكرته حين دخل مرة مع صديقه المحب للكتب ولكنه قال لقد تداخلت عناوين الكتب في رأسي وسألت: ما الجدوى من ذلك؟. وبين السؤال عن الجدوى وبين القدرة على القراءة والقدرة على الشراء تبقى هذه الأسئلة الراهنة مصابيح رؤيتنا لمستقبل الكتاب والمكتبات وكيف يمكن لنا أن نحفر آباراً من المؤسسات الثقافية العامة والخاصة لنروي عطش العقول وتخضر البيئة القاحلة، فهل ستزدهر بلادنا لنجد المكاتب والمراكز الثقافية قريبة من كل البيوت وقادرة على جذب الاهتمام إليها.