حنان علي كابو
تصوير/ مفتاح الخشمي
يظل الفنان أسيرا لفكرته، سجينا لها حتى يتحرر من قيدها، تبزغ كنور ساطع تأخر عن موعده، ولكنه يظلا بعدها خفيفا كريشة، كسحابة بيضاء في أفق متعب.
أربعة أعوام من العمل الدؤوب المتواصل، أربعة أعوام ونيف والفكرة قيد التماهي، والفكرة وليدة فكر متحرر، والفكرة تكشف عن سلسلة من وجع دامي، والفكرة رهان مقدس.
استنطق كل رواءه بالتقسيط المريح هذا ما ميز معرض دمى الذي أقيم ببراح، براح العمل الصادق حتى أبعد نقطة، العمل الجدي حد النخاع، العمل الذي يركن لراية الأبداع ويجسد كل محتواها.
في رحلة مقتضبة بيوم شتوي بامتياز ببنغازي، امتد خط سيري، الطرقات لأتفرغ من السيارات والمارة، واطلال حرب لازالت شاهدة، والبيوت وعمارة السفينة غارقة في حزنها الأسود، ومن يغدق عليها بالفرح، والشوارع هناك يلتهمها صمت مهيب.
وحده أزير السيارات، وحدها الذكريات تعدو هناك وينبض حنين خفي.
كانت زيارتي الأولى لبراح، -بعمارة طرخان-الذي أعلن في دورة برامجه عن إقامة معرضا للدمي ضمن أسبوع "ملامح ودوزنات"، يتخلله عرضا مرئيا، وورشة عمل تدريبية "اكوريل –باستيل " بالإضافة ‘لندوة بعنوان قراءات تشكيلية لأعمال المعرض "، الباب مشرع لزائريه، المكان يحوي بالكثير ثمة غرفة مكتظة بطاولة النقاش والمقاعد متراصة، يطالعني الجوكر بابتسامته المتضاربة بألوانه المشعة وحزن عينيها وابتسامته التي ترمي آسها طويلا.
القاعة يلفها صمت مطبق إلا من بعض الزوار وهم يتناقشون بصوت منخفض، وقع أقدام يقترب، إضاءة خافتة والظل سيد المسرح والمكان، المنحوتات التي تقف في كبرياء، في إحدى الجدران ثمة شاشة عرض، تعلو الموسيقى تتداخل الصور بترتيب قدري بترتيب فني محكم تمازج أوتار العود مع مفاتيح البيانو وتداخل الساكسفون والكمان في مشهدية صوتية تقشعر لها الروح.
آلم نستمد منه الإنجاز ....
60 منحوتة عرضت استعمل من خلالها الفنان التشكيلي جمال الشريف مواد مختلفة أشار إلى أنها من المخلفات وبقايا من الحديد والخشب والورق والمواد الجصية والمصلبة.
وأوضح إن لغة التشكيل لغة للتواصل والتفاعل مع الآخر قائلا "بكل تأكيد هي صدى لما يدور داخلنا من انفعالات واحاسيس وقد بحنا بها وأضاف "حالة الفنان تتواكب مع متغيرات الحياة واحداثها، فهي حالة تفاعل مستمر فطالما كان المؤثر كان التأثر والانجاز والتعبير لخلق حالة مشاركة مع الاخر"
وعن استخدام التأثيرات الصوتية والموسيقية وما أضفته للعمل من تميز تحدث قائلا " لقد انجزنا فلم قصير موسيقى خاصة بالعمل، تلحين وتوزيع الموسيقار سمير كتوع، عزف عود مصطفى نجم، وتصوير واخراج عصام الصابرى، جاء العمل متكامل بين الموسيقى والصورة وهو ما سعينا اليه وما عكس رؤية المبدعين الذين عملت معهم"
اما بالنسبة للضوء فهو مكمل أساسي للعمل المنحوت لخلق الظلال واضفاء المعنى على العمل"
جاءت "دمى "لتفرغ حمل الشريف المثقل بالكثير من المشاعر والانفعالات لأحداث ومواقف وأكد أن بعد "دمى" مرحلة امتلاء وتخمر لما هو اتى" والذي الان اعمل عليه "
مزج الشريف بين المواد في تقنية باهرة قال عنها "المزج بين المواد يتيح لنا الوصول للتأثير المطلوب الذي يعبر عن المضمون"
اختتم حواري معه قائلا "لكل منا وجه ظاهر انه الظل ووجه مستتر وهو الحقيقة وهو ما عبر عنه مهرج دمى فرغم كل مظاهر البهجة هناك حقيقة مخبأة داخلنا قد تكون الم نستمد منه الانجاز ونحوله الى طاقة فعل وخلق لغة تشارك مع الاخر فيتحقق توازننا النفسي ونرتقي لما هو أسمى".
دون موسيقى تظل الأعمال ناقصة ..!
كما أشار الأستاذ الشاعر والتشكيلي بالإضافة لكونه مدير تصوير سينمائي عصام الصابري والذي صور العرض المرئي المرفق للمعرض وأخرجه، في مستهل حديثه أنه كان مطلعا على جل هذه الأعمال المعروضة بحكم الصداقة التي تربطه بالفنان جمال الشريف وأضاف "يمكن القول المعرض خلاصة أربع سنوات من العمل المتواصل، فمن المتعارف عليه عالميا إن الجوكر بقدر ما يضحك الأخرين ولكنه بداخله حزن، يخفيه بكاريكاتير الضحك، وتسليط الضوء على آلات موسيقية معينة اسقاط لحالات معينة ...
وأوضح الصابري إن العمل بدون موسيقى يعد عملا ناقصا، أنه استعمل الإضاءة بطريقة فنية تقنية في تحريك الظلال لتعطي انعكاسها وأبعادها على اللوحة وعلى المتلقي.
وأكد في ختام حديثه إلى أن هناك معارض مستقبلية ستجمعه بالفنان الشريف.
المعرض الذي جذب جمهورا متنوعا من مختصين تشكيلين ومثقفين ومهتمين بالشأن الثقافي ومتتبعي أنشطة براح والذي لاقى حضورا جميلا يقول التشكيلي عبد القادر بدر عن تجربة الشريف في معرضه الأخير بأنه فنان شامل متمكن من ادواته ذو خبرة واسعة ورسام واقعي يرنو الى ما ابعد من الاعمال التصويرية وابعد كذلك من التجريد حيث استطاع ان يصف مشاق ومتاعب الحياة الإنسانية في اعمال نحتية تجريدية تمثلت في دماه الواقعية التي تصف قبح الواقع وقبح العالم من حروب ونزوح وشتات.
وفي نفس السياق يرى الحروفي على القرقوري إن ما يميز أعمال الشريف العفوية والبساطة في طرح الاحاسيس التي يشعر بها الإنسان، ويمر بها في حياته مع العمق والقوة والتمكن في تجريدها ووصفها بدقة ليفهمها الجميع، وعند الوقف أمام الأعمال سيجد قصة وسيناريو وكأنك أمام عمل درامي متجدد يعرض مشاهد من كل زاوية تنظر إليها وأضاف ". تم توظيف الظلال فيها بشكل فني واحترافي يجعل المشاهد لا يمل من العمل وفي كل نظرة يكتشف الكثير من القصص كما استطاع بابتعاده عن الرتابة والتقليد وصف حالات الحب والعطاء واللين والشدة والفرح والحزن والرخاء والشقاء والسفر والغربة والفن، في دمى أبدع واعتقد هي مرحلة من مراحل الفنان الأستاذ جمال وتجربة لن تتكرر.
ومن جهته أكد التشكيلي إيهاب الفارسي إن تجربة معرض دمى جميلة وصادقة، رغم الألم الذي كان طاغيا على الشخوص في اعماله الا انه عبر بصدق وبراعة، وأضاف الشريف شخصية حساسة حتى علي الصعيد الشخصي. عبر لنا عن حكاية مدينة منكوبة ارهقته وتغلغلت في أحاسيسه، فأخذت اعماله طابع السرد المتسلسل بطريقة فنية تجسدت في دمي كما اسماها الفنان نفسه ربما هي اسقاط للدمي التي تساق نحو هالكها او نحو المجهول. في النهاية عندما زرت المعرض تألمت كثيرا ولكني استمتعت بالتناول والحرفية الفنية والجمال في الأعمال .... لكن لا يخلو الأمر من بعض الأعمال الغير متقنة والتي لم تنجز بمستوي اغلب الأعمال الأخرى .... ويظل جمال الشريف من الفنانين الصادقين.