منذ مدة وانا أفكر في الكتابة عن كولن ويلسون الروائي الإنجليزي المعروف والذي أشهر منذ مطلع الستينيات بلندن نفسه الشاب الريفي الفقير الذي غطت شهرته على شهرة الكثيرين من كتاب الانجليز والذي خاض معركة طويلة ضد النقاد؛ والسبب الذي دفعني للإعادة النظر بموقفي من كولن ويلسون هو روايته الصادرة أساسا بالإنجليزية عام 1966م والتي عنوانها: القفص الزجاجي فلشدة احساسي بجمالها تغلبت على رأيي السلبي في كتابات ويلسون حيث اذكر انني قلت عنه ما لذي يهمني في كاتب يربط الكتابة بتجربة تذوق المخدرات؟! فهذه الطريق لم تغرين يوما ربما اغرتني أشياء أخرى اعتبرها أكثر جاذبية أضعف امامها اما المخدرات فلم تجذبني ولا حتى تكرار المقولات الملخصة عن قوة النفس الباطنية الداخلية فهي أيضا بالنبة لي أوهام تناسب بدايات الستينات لكن جمال مطلع رواية القفص الزجاجي كان كافيا لإقناعي بالكتابة عن كولن ويلسون ...
والامر الغريب واللافت للنظر بشدة ان ويلسون هذا كان دائما موضة قائمة منتشرة عندنا في طائفة كتاب ليبيا على الأقل فكل جيل ادبي منذ الستينيات له ذكريات مع كتب ويلسون خاصة كتابه الأهم اللامنتمي ؛ الذي تحدث عنه السياسي السوري المعروف فاروق الشرع قائلا انهم كانوا يتداولونها في منتصف الستينيات بالرغم من انهم كانوا شبابا منتمين حتى النخاع للتيار القومي وملتزمين تماما بسياسات حزبية منضبطة ؛ ربما نسي ان يبلغكم فاروق الشرع انهم كانوا أيضا طبقة وسطى وهذه كل ما عندها بما في ذلك التزامها الحزبي هو أوهام مؤقتة فهي لا تملك شيئا لا قوة عمل تعرضها ولا مصانع تستثمرها لا تملك الا تداول الاحلام بشكل مؤقت جدا ...؛ وربما من هنا نفهم بقاء ويلسون كموضة دائمة في عالم شباب الكتاب في ليبيا ...
وفي تقديري ان مدخل الرواية؛ القفص الزجاجي عبر مناظر طبيعية يتوحد فيها البطل مع الطبيعة ويحس بإحساسها هو من اجبرني على قراءة الرواية حتى اخر حرف فيها؛ اذ بقيت انتظر المشاهد الطبيعية طوال الرواية التي اختلفت اجزاءها بعد التسعين صفحة الأولى؛ اذ قرر البطل ان يخوض مغامرة بوليسية طويلة في لندن العاصمة المكتظة بالناس خاصة الفتيات والمجرمين ورجال الاعمال.. فتحولت الرواية الى سلسة اكتشافات ومطاردات لمجرم يستعرض كتابات الشاعر بليك حيث البطل ريد هو مختص بهذا الشاعر ويستغرب كيف ان انسانا يعجب ببليك يمكن ان يكون مجرما فيدخل جملة مطاردات تقوده اكتشاف المجرم لكنه لا يسلمه للشرطة بل بالعكس يعطيه نصيحة ستضمن له بقاءه في مستشفى الامراض النفسية لفترة ؛ حيث ان البطل ريد قدر ان هذا المجرم سينتحر أخيرا خلال سنتين فقط.. لان به ميولا لتدمير الذات ...
كل الرواية ومساراتها المتعرجة تقف هناك لوحدها بعيدا ومسار كيت بتللر صديق البطل يقف على ربوة ثانية ؛ فالرجل بتللر رافق صديقه البطل ريد في كل محطات البحث عن المجرم كظله لكن كلما حانت ساعة حاسمة كان الروائي ويلسون يعمد الى تأخيره أي كيت بتللر ليعطي لريد دورا حاسما في الاحداث؛ وبينما يخطب ريد قبل مغادرته منطقة البحيرات الريفية الفتاة المراهقة غير الناضجة بعد سارة فانه وفي تعاقد غير معلن مع عمها يغزو لندن ليثبت لعمها انه قادر على حماية ومراعاة سارة وانه رجل ناضج جدا بماقيه الكفاية للزواج منها؛ ويمتنع تماما عن ممارسة الجنس خلال اقامته في لندن بينما قربه على بعد خطوات بتللر يتنقل ممارسا الجنس مع اكثر من ثلاث شابات تباعا خلال ثلاثة أيام ...! وكلما مارس الجنس مع واحدة تهرب منها وتغيب عنها ؛ بينما كادت شيليا جارتهم في المسكن المؤجر ان تغتصب البطل ريد دون أي فاعلية منه هو ؛ أي ان بتللر كان صيادا للنساء متنقلا بينهن كازانوفا جديد تماما بينما يكاد ريد يكون بطلا راهبا ؛ فهل عنى ذلك ان بتللر هو نفسه ريد ؟! وفي الوقت نفسه هو نفسه الكاتب ويلسون معبرا عن رغبته في التقل بممارسة الجنس لمرة واحدة مع كل فتاة يشاهدها؟! فهن كلهن شبيهات لسارة؟! اعتقد ذلك وارجحه وحجتي هي ان بتللر كان تقريبا زائدا عن حاجة الرواية ضمن الاحداث الهامة فهو مجرد تغطية لرغبة ويلسون الشخصية في التحول الى كازانوفا جديد؛ كازانوفا الستينات...! والذي بالمناسبة يعلم جيدا ان نساء لندن وفتياتها المتحررات جنسيا يرفضن تماما منطقه فأول فتاة يمارس بتللر الجنس معها تعود ثاني يوم لإطالة امد العلاقة وتحويلها الى سلوك يومي مكرر وعادي ...!!
بالنسبة لي ثمة ادلة أخرى على هذا التفسير منها الكارثة الرئيسية في الرواية : اختفاء الطبيعة منذ الصفحة التسعون تماما ؛ كما اختفت سارة التي كان كل دورها تبرير ممارسة بتللر للجنس مع شبيهاتها فكلهن يشتهين بتللر أي يشتهين ريد نفسه ؛ أي يشتهين ويلسون نفسه ..!
الغريب في المر انه بعد كل ما مر بهذه البلاد من احداث عاصفة وحروب قاتلة لايزال كتابها الشباب يعجبون بنفس المقولات القديمة المستهلكة؛ هل ثمة بلاد تكرر نفسها اكثر من بلادنا هذه ؟!!.