حين قدمت للحياة توقف رحم أمي عن استقبال حياة أخرى..قال لها الطبيب :- أنت ضعيفة لن يعود بإمكانك الحبل ثانية ..خبرتني أمي ذات صفاء أنها حمدت الله كثيرا أنني أنثى كي اونس روحا سبقتني بعامين اسماها أبي هنية تيمنا بجدتي الراحلة التي لم يهنأ بالعيش معها وربي يتيما..
أمي سيدة ودودة حد التساؤل ..كنت افزع دائما من احتمالها لصرامة عمتي وفضولها!لكنها كانت تطمئن روحي وتربت على خاطري قائلة إيه يابنتي الدنيا مفرقة ..لكن روحي الثائرة كان يأكلها الامتعاض من عبارتها تلك ..فأفرد مساحة صوتي الصغير مشاغبة لها ..!لكنها تستفزك أمي فيأتيني صوتها الواثق..لكنها عمتك والمثل يقول البنت لعمتها فأصمت برهة ..لأقرر اني لست مثلها
أمي قدرية صاحبة اللون الخلاسي والعينين الرماديتين ابنة لونها ..وسليلة أسرتها الطيبة كانت عكس والدي صاحب البياض المشرب بالحمرة والعينين العسليتين..فبقدر هدوءها كانت عصبية والدي ..وقدر سكونها كانت ناره متقدة ..كنت أتساءل كيف يلتقي الماء والنار وتأخرت كثيرا لأتعلم أن هذه هي الحياة وتلك سنة العيش لكي نستمر !
ذات صباح شاهدت خلسة دمعة على خد أمي مسحتها بكم فستانها لتدعي أن عينها قد طرفها أحد أظفارها..لكن صوتها كشف اضطراب روحها فقد كانت مكشوفة حد الشفقة ..أمي كانت تحمل الوجيعة في روحها وتنيمها في مهد المغفرة ..ولعلها كانت تهدهدها أيضا فتلك السيدة كانت معجزة في الصفح حتى الدهشة ..روح تمشي على الأرض.
قلت لها ذات جلسة في حجرها لم تحتملين الإساءة ؟ردي فأنت لست ضعيفة !..ضحكت بنقاء وأردفت لأني لا أحب أن اجرح أحد ..لكنهم يجرحونك حين يعيرونك بلونك..وحين يسخرون من طيبتك..ولطالما عرضوا بصمتك وانتهروه خوفا ..وهل انا مثلما يقولون يابنتي ردت بسمتها الوقور ..ذبت خجلا من جرأتي.
فأمي بنت شارع قصر حمد وزنقات البلاد العامرة بروائح الأحبة لم تنشأ إلا لتحب كانت دائما تخبرني عن جاراتنا وعلاقتها بهن عن عمتي حليمة بنت شيخ العطارين في بنغازي سليمان النجار رحمه الله ..وعن شارع بالة وخريبيش وسوق الظلام والجريد وشط الشابي وسوق الحوت ..وعن حوش منينة بيت الكرم
أمي لا تحسن سرد التاريخ كأخي مفتاح لكنها تحسن الحديث عن الذكريات ..وتجيد الصمت حين يصبح الحديث بلا معنى..وتتقن الستر حين يتعرى المسيئون في محيطها
بنت الحوش العربي ..بخوخته وسدته وسقيفته الباردة وروائح النعناع والحبق..والياسمين الدرناوي..تفردت في أرواح من عرفوها بالنقاء لم يطمسها حقد ولا عرفها مجلس نميمة تلك أمي فمن مثلها تجود الحياة به.