Aug 09, 2025 Last Updated 12:17 PM, Aug 9, 2025

فلسفة الإنجاب في المجتمع الليبي مميز

فلسفة الإنجاب في المجتمع الليبي فلسفة الإنجاب في المجتمع الليبي صورة مولدة بالذكاء الاصطناعي

غفران جليد

لم يكن الإنجاب يومًا قرارًا بقدر ما كان قدرًا. في ليبيا، كما في معظم خرائطنا العاطفية الممزقة، يُزرع فيكِ الإيمان بأن الطفل ليس مجرد كائن يولد، بل شهادة انتماء، وسجل نفوس للفضيلة، وامتداد صامت لاسم العائلة.

هنا، يُنظر إلى الطفل كأنّه صلاة طويلة الأمد تُقام في بيتكِ، شهادة بأنكِ قد قمتِ بواجبكِ، وأنكِ تُجيدين الخضوع للتقاليد بامتياز. أنجبي، قولي “نعم”، لا لأنكِ تريدين، بل لأنكِ “امرأة”، وهذه كفاية. لكن المشهد تغيّر، لا لأن المجتمع قرر إعادة النظر، بل لأن الحياة فعلت ذلك بالنيابة عنه

. الحرب جاءت، وبيدها قائمة طويلة من الأشياء التي صادرتها: الطمأنينة، الدخل، واليقين. فأصبح الإنجاب قرارًا يمشي على حبل مشدود بين العادة والعجز، بين ما “يُفترض أن يكون” وما “يُمكن تحمّله”. ما كان يُعدُّ سابقًا مفخرة العائلة، صار اليوم عبئًا يستوجب حسابات دقيقة: كم كلفة علبة الحليب؟ كم ثمن حفاضات بحجم براءة؟ كم يكلّفكِ حلم أن يكبر طفلك بلا أنين؟ لم تعد السلالة شرفًا فقط، بل امتحانًا متكرّرًا في القدرة على النجاة

. التقاليد ما زالت تمجّد كثرة الأبناء، لكن الواقع يصفع. المرأة، أيقونة الأمومة، صارت أيضًا المتهمة إذا تأخرت في “واجبها”. وحدها تُحاسب، وكأنّ الإنجاب طقسٌ تؤديه المرأة وحدها، أو قرارٌ تتخذه في فراغ. يتجاهلون أنها من تُربّي، من تُوازن بين الغلاء والحب، من تُعاقَب إن تجرّأت على التوقّف. فالطفل هنا لا يُمنح لها، بل يُسحب منها لتربّي فيه مجتمعًا يشبههم، لا يشبهها. أما الرجل؟ فهو اسمٌ يوضع على شهادة الميلاد، ثم يبتعد قليلًا

. في هذا الوطن، الحرمان لا يعني فقط ألّا تملك، بل أن يُطلب منك أن تُنجب فوق القدرة، وتفرح تحت القصف، وتربي الأطفال بأمل مُستعار. المفارقة أنّ مَن يُنجب يُدان، “غير مسؤول”، يقولون. ومن لا يُنجب يُدان أيضًا: “عدوّ التقاليد”. هل هناك مهزلة أكبر من أن تصبح الحياة نفسها فعلًا مريبًا، مُحاطًا بالشكّ، ومحاطًا بالمواعظ؟ بعضهم يختار الإنجاب كتشبث بالحياة. في وجه الفقد، ينبت الأطفال كأملٍ متأخر.

غريزة البقاء تنجب أطفالًا، ليس حبًا، بل مقاومةً للمحو. لكن حتى المقاومة في هذا البلد تُعاقَب، لا قوانين تنظّم الإنجاب هنا، لا سياسة معلنة، لكن هناك سياط خفية تُجلد بها كل من تتأخر، كل من تُخطط، كل من تجرؤ أن تفكر بعدد أقل، بعدد يمكن احتماله في حضن العالم لا في قبره. كل ما في الأمر أن الناس يرزحون بين مطرقة التقاليد وسندان التضخّم، وأنّ الأمهات ينجبن وسط ركام المستشفيات، وضجيج الخطابات التي تُمجّد الأسرة وتنسى الرضّاعة. ولا أحد يسأل: من يربّي؟ من يُطعِم؟ من يحتمل؟ كأن الأطفال يكبرون بالماء فقط، أو كأن الحنان لا يتطلب خبزًا. في مكان كهذا، يصبح الإنجاب طقسًا دفاعيًا، محاولة لترميم مجتمعٍ ينهار من الداخل. لكننا لا نُناقش الحقائق، بل نحاكم النوايا.

نمنح المرأة لقب “غير مسؤولة” لأنها فكرت، لأنها سألت، لأنها أرادت أن تختار زمن طفلها لا زمن توقعاتهم  في النهاية، الإنجاب هنا ليس قرارًا بيولوجيًا، بل مرآة لكل التناقضات: بين الشرف والعوز، بين الحب والموروث، بين الرغبة والواجب. ولن نخرج من هذا المأزق ما دمنا نُفكّر بعقل القبيلة، ونحاسب بلسان الدين، ونُنجب بأيدي الاقتصاد المنهار.

إنه ليس مجرد طفل يولد… بل اختبار: هل ما زال لدينا ما نُقدّمه للحياة، أم أننا فقط نُنتج شهودًا جددًا على موتها؟

 

 

اشترك في نشرتنا الإخبارية

ليصلك كل جديد من أخبار ومقالات وأخر القضايا الساخنة ... ضع بريدك الإلكتروني هنا

أكثر قراءة

أعلن معنا هنا

 

أعلن معنا في الليبي اليوم

 

  • المقر بنغازي / ليبيا شارع عبد المنعم رياض/ عمارة الإعلام/ الدور الأول الهيأة العامة للصحافة بنغازي
  • +218.92.758.8678
  • +218.91.285.5429

 

read more