لم تعد ليبيا كما أعرفها… لم تعد البلاد التي ترقص معها أوراق النخيل على إيقاع الخطى القديمة. ثمة لهجاتٌ غريبة تزاحم اللهجة الليبية في الأسواق، ألوان أخرى تُغافل جدران البيوت، وأقدامٌ كثيرة تمشي على الإسفلت كما لو أن الأرض لا ذاكرة لها. منذ سنوات، وأنا أراقب مدينتي تتلوّن دون أن تختار، تتغيّر دون أن تُقرر. في الجبل الأخضر، وتحديدًا في قورينا التي غرست فينا جذور الثبات، تجد اليوم من لا يعرف التاريخ الذي يمشي فيه، ومن لا يحمل في قلبه شيئًا من ملوحة البحر ولا مرارة الحرب، يبيع ويشتري على أرصفة الذكريات. المهاجرون الأفارقة لم يعودوا غرباء عابرين. إنهم يسكنون الزوايا، ويتحدثون بلغاتٍ لا نفهمها، يرتدون مدنهم كأنها أثواب صلاة، يضحكون في حلقةٍ غريبةٍ عن هذه المدينة الحزينة، ولا يعرفون أن تحت كل حجرٍ هنا قصة، وكل شجرة صنوبر شهيدة. يقولون: ليبيا صارت معبرًا. وأقول: بل صارت معركة. بحسب المنظمة الدولية للهجرة، يزيد عدد المهاجرين في ليبيا اليوم عن 850 ألف إنسان، رُبعهم تقريبًا يعيشون بلا أوراق، وأغلبهم بلا صوتٍ في سجل الحياة، لكن بأثرٍ عظيم في تركيبة الوطن. نظامنا الصحي يرتجف أمام انتشار الأمراض المعدية، والنظام التعليمي لم يعُد يعرف بأي لسان يشرح، والشباب الليبي بات يتساءل: هل هذه الأرض لي؟ أم أنني أصبحتُ غريبًا في شوارع تحمل وجوهًا لا تشبهني؟ وشركاتٍ ترفضني بينما تفتحُ أبوابها للمهاجرين؟ إننا لا نتحدث هنا عن “المهاجر” فقط، بل عن غربةٍ تُقيم معنا دون أن نختارها، عن هويةٍ نُطالب بالدفاع عنها، في حين تتآكل بهدوء تحت وطأة الضجيج الجديد. تقول الأرقام: 15% من المهاجرين يعانون من أمراض معدية، لكننا نحن من يعاني من الصمت… الصمت الذي يجعلنا نبتلع اعتراضنا ونُربّت على ظهور أبنائنا قائلين: “سيكبرون ويتأقلمون”. وهل التأقلم خيار؟ أم جريمة ارتكبتها الدولة حين نامت عن صياغة قانون للهجرة؟ حين سمحت لبلادنا أن تصبح “حلًا مؤقتًا” لمشكلة لا تخصنا وحدنا؟ لا نرفض الإنسان… لكننا نخاف من أن نذوب نحن في ملامحه، أن يستيقظ الحفيد ذات صباح ولا يجد وجه جدته في لهجة السوق، أن يتحول الوطن إلى مزيجٍ باهت من كل شيء، إلا ما يشبهنا. الدول المجاورة تقاوم… تونس أنذرت. الجزائر اشتكت. لكن ليبيا فتحت قلبها وحدودها، واكتفت بالتفرج على الوجوه الجديدة، وهي تتسلل من الباب الخلفي للحلم الليبي. الهجرة ليست ذنبًا، لكنها ليست قدرًا حتميًا. ونحن لا نعادي الغريب، بل نخاف أن نصبح الغرباء. فمن يدافع عن هوية مدينة ودولة؟ ومن يحمي ذاكرةً من الزوال؟ ومن يصرخ حين تتحول الأحياء القديمة إلى نسخ مرتجلة من لاغوس أو جوبا؟ إننا نحتاج إلى من يرى أكثر من الصور الإنسانية، من يسمع أكثر من أناشيد التضامن، من يقول للحظة: “نعم، نحن نرحب، لكننا نختنق.” أيتها البلاد التي شبعت من النزوح، لا تتحمّلي موجات أخرى من اللايقين. ولا تجعلي من المروءة سلمًا للمحو. ليبيا ليست عبورًا. ليبيا وجه، ولهجة، وذاكرة… والمستقبل يحتاج من يعيد لها ملامحها قبل أن تصبح مجرد محطة مؤقتة في ذاكرة الآخرين.




