طباعة هذه الصفحة

الدوغمائية في الواقع الليبي المعاصر مميز

الدكتورة صالحة اشتيوي الدكتورة صالحة اشتيوي

عند التأمل في المشهد الليبي اليوم، يتّضح أن النزعة الدوغمائية لم تعد مجرد مفاهيم فلسفية محصورة في الكتب، بل صارت واقع ملموس يتجسّد في مواقف الأفراد والجماعات على حدّ سواء. بعد سنوات من الانقسام السياسي والاجتماعي، تحوّل الرأي إلى عقيدة، والموقف إلى هوية لا يجوز المساس بها. في الساحة السياسية، يتمسّك كثير من الأطراف بمواقفهم كما لو كانت حقائق مطلقة لا تقبل المراجعة.

كل طرف يرى نفسه حاملاً لـ"الصواب الوطني" أو "الشرعية الوحيدة"، بينما يُنظر إلى الطرف الآخر كخطرٍ وجودي لا يمكن التفاهم معه. هذا التصرف هو تجسيد عملي للدوغمائية: إيمان مطلق بالرأي، ورفض لأي مساحة مشتركة للحوار أو التنازل. أما في المجال الاجتماعي والثقافي، فتظهر الدوغمائية في صورة استقطاب فكري حاد، تتحوّل النقاشات العامة إلى معارك للانتصار لا للسعي إلى الحقيقة، حيث يدافع الأفراد عن أفكارهم ليس للبحث عن الحقيقة، بل لتأكيد الذات والانتماء، وكأن الاعتراف بوجهة نظر مختلفة يُعتبر هزيمة شخصية، تُغلق العقول قبل أن تُفتح، وتُطلق الأحكام قبل أن تُسمع الحجج.

تتضافر العوامل النفسية والثقافية لتغذي هذا النمط من التفكير: الخوف من الغموض والفوضى الفكرية، ضعف التربية النقدية، والإرث الطويل من السلطوية السياسية والاجتماعية. هذه العوامل تجعل التمسك بالمطلقات ملاذاً من الشك، ووسيلة لتأكيد الذات وسط واقع مضطرب. والأخطر أن الدوغمائية تُعطّل أي محاولة للتوافق أو الإصلاح. الحوار الوطني، بدلاً من أن يكون مساحة لتبادل الرؤى، يتحوّل إلى ساحة لتكرار الشعارات، وعندما يختفي التساؤل، تتوقف القدرة على رؤية الحلول خارج القوالب الجاهزة. حين يتوقف الإنسان عن التساؤل، يتوقف التقدم. الخروج من هذه الدوامة يتطلب ثورة فكرية قبل أن تكون سياسية: ثورة تعيد الاعتبار للعقل النقدي، وتعزّز ثقافة الإصغاء بدل الإقصاء، وتؤكد على قبول الاختلاف كشرط أساسي لبناء مجتمع متوازن. الحقيقة في الحالة الليبية لا يملكها طرف واحد، ولا تُصاغ بالقوة، بل تُبنى عبر الحوار، والتنازل، والاعتراف المتبادل.