غفران جليد
في اللحظة التي تُبصر فيها الفتاة وجه أمها، تبدأ أوّل مرآة داخلية بالتكوّن. ليست المرآة التي تعكس هيئة الجسد، بل التي ترسم للوعي حدوده، وللنفس لغتها، وللأنوثة معناها. ولذلك، فليست الأم مجرّد راعية أو مربية…
بل هي الأرض الأولى التي تخطو فيها البنت نحو العالم، هي القالب النفسي الأول الذي تُسكب فيه الروح. تقول د. نانسي تشودرَو (Nancy Chodorow) – وهي إحدى رواد مدرسة التحليل النفسي النسوي – إن هوية الفتاة تتكوّن عبر ارتباطها العاطفي العميق بأمها، وأن هذا التماهي لا ينفصم بسهولة، لأنه ليس مجرد تكرار، بل انصهار نفسيّ، فالأم ليست فقط أول امرأة تراها الفتاة، بل هي أول مفهوم “لما تعنيه المرأة”. وهنا تكمن المعادلة المعقّدة: إذا كانت الأم تحمل في داخلها آلامًا غير معالَجة، أو نظرة سلبية لذاتها، فإن الفتاة تمتصّ هذه البرمجة دون أن تدري، تُولد بها، تتنفسها، وتعيد إنتاجها، حتى لو تمردت عليها لاحقًا.
ويؤكّد علماء النفس التحليلي – وعلى رأسهم كارل يونغ – أن الأنثى تنمو داخل “ظل الأم” طويلًا، وأن هذه العلاقة، بما تحمله من تعاطف أو صراع، ستنعكس لاحقًا في علاقة الفتاة مع نفسها، ثم مع زوجها، ثم لاحقًا مع ابنتها… في سلسلة نفسية لا تنكسر إلا بالوعي. بين الأم وابنتها مسافة قصيرة في الجسد، لكن طويلة في التأويل، فكلاهما – كما تقول الكاتبة إليزابيث بادينتر – محكومتان بتوقّعات اجتماعية تقيس الحبّ بالأداء، وتقارن العطاء بالكمال، وتُدين الخطأ وكأنه عيب في “الأمومة نفسها”. وهكذا تصبح البنت أحيانًا ضحية “الكمال الأمومي”، فأمّها التي تعبت لتقدّم الأفضل، قد تنتقدها حين لا تكون على مستوى طموحها، أو قد تقيّمها من باب “الحرص” فتُزرع في داخلها بذور عدم الكفاية، بذور فتاة، تشكّ بنفسها وإن تفوّقت، وتعتذر حتى عن أحلامها، وإن كانت مشروعة.
تُشير نظرية التعلّق (Attachment Theory) لعالم النفس جون بولبي إلى أن نمط العلاقة بين الأم وابنتها في الطفولة المبكرة يُشكّل أنماط التعلّق العاطفي لاحقًا، فالأم المتوازنة، التي تمنح الأمان دون تملّك، والحبّ دون شرط، تُنتج ابنة تستطيع أن تحبّ بكرامة، وتختار بعقل، وتثق بنفسها. بينما الأم المتذبذبة، أو المتسلطة، أو الغائبة نفسيًا، تُشكّل ابنة تتعلّق تعلقًا مرضيًا أو تنفر من الحبّ كله، وتقف في منتصف الطريق بين الحاجة والاستقلال، بين الرجاء والخوف، بين الاحتياج والرفض.
لهذا كانت علاقة البنت بأمها أشبه بخارطة جينية، تُكتب في الخفاء، لكن آثارها تظهر في كل مرحلة، تُظهرها ضحكةٌ قلقة، أو تردّدٌ في اتخاذ قرار، أو خجلٌ من النفس. وليست هذه دعوة لتحميل الأمهات كل الأخطاء، بل نداءٌ لفهم عمق العلاقة، وفهم أن إصلاحها ليس فقط فعلًا شخصيًا… بل ترميمًا نفسيًا لأجيال بأكملها. إن الأم، كما وصفها الشاعر جبران خليل جبران، “ليست فقط جسدًا يحمل، بل روحٌ تشكّل، ويدٌ تكتب بداية كتاب الحياة”. فهل نُدرك، كنساء وأمهات وبنات، أن بين الأم وابنتها شيء لا يورث فقط، بل يُعاش ويُتعلَّم ويُشفى أيضًا؟.