تقرير/ فاطمة المبروك
تصوير: ابوبكر الرفادي.
بأرجل مثقلة بالبؤس، يدخل المنزل منتصف الليل، الهدوء يعم أركان البيت، ولأول مرة يستشعر هذا الهدوء من حوله وهو الذي كان يظنه هدوء معتاد، فقد فعل الضجيج والصراخ والعويل وآلات الجرف وأصوات فرق الإنقاذ فعلها في مخيلته أثناء عودته. رمي هاتفه، ومعدات التصوير الخاصة به، الكاميرا التي وضعها على حافة الطاولة، رمقها بنظرات اشمئزاز بل اتهام أيضا، وكأنها المسؤول الوحيد عن كل جثة، وعن كل بيت مهدم، وكل شارع غارق في الوحل، التقطته عدستها.
من على أرضية غرفة الجلوس التقطت لعبة لابنته الصغرى، ليتذكر قبل ساعات الكم الهائل من الألعاب والكتب المدرسية والحقائب الملونة، التي رآها مرمية في المدينة بيد أن الأخيرة أصحابها في عداد الأموات.
بعد مرور كل تلك الأيام لازالت روائح الجثث، المختلطة بالوحل وبمياه البحر، عالقة في أنف ابوبكر الرفادي المصور الصحفي الذي لم تفارقه مشاهد شوارع المدينة المكلومة بعد شروق اليوم الأول من الكارثة، وحتى الآن.
فها هو يصف ما رآه قائلا: يواري الحطام نصف جسدها، جاثيا عليها ويخفي ملامحها، تمددت الأم بعد ما مر بها، جثة هامدة، ممزقة، بين أحضانها، يظهر طفلها الذي تشبثت به لآخر لحظة، قبل أن ينهار عليهما المنزل الذي حاصرته مياه الفيضان، فحولته لحطام، رأيت اليد الصغيرة تتدلى من بين الركام والوحل والأتربة، ربما عزائه الوحيد شعوره بالأمان، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة بين يديها، فعلها روت له في تلك اللحظات المميتة، أن ما يحدث مجرد لعبة لن تطول، ولعله رمقها بنظرات قلق وأدعى أنه يصدق ما قالت، فهي أم و"الأمهات لا يكذبن".
ابوبكر في أوقات عدة أنزل كاميرته وتوقف عن التصوير من هول ما يسمع، وأوقات أخرى حياءً من نحيب ودموع جافة لم تنزل، ولكنها نخرت ذاكرته بأصوات أصحابها. ظلت قصص عالقة دون غيرها في ذاكراته، فقد حدثه أحد الناجين عن ركام المنزل المختفي تماما من الوجود، ويفترش بقايا عتبته كلب أبيض ملطخ بالوحل، هزيل الجسد ذو عينين غائرتين تتقلبان في مِحجريهِما، ينظر حوله في هلع وكأنه يتسأل اين بقايا البيت، وأين اختفى صاحبيه، تلك العجوز، وزوجها اللذين لم يعثر لهما على أثرٍ بعد، يقول الجيران كان الكلب يرافق المرأة العجوز في كل مشوار تذهب إليه، في بادئ الأمر قبل أن تطمئن إليه وتستأنس به، كانت مرارا تحاول ابعاده، حتى إنها كانت ترشقه ببعض الحجر، ولكن الكلب يصر على مرافقتها، والنوم أمام المنزل لتستلم لوجوده الذي كان يشعرها ببعض من الأنس بعد زواج كل أبنائها لتبقى هي وزوجها يكتبا الفصل الأخير من رحلتهم مع الحياة، حتى ولو أنه كلب لكنه ربما هو مثل الجميع لم يستوعب بعد اختفاء منزل كبير من طابقين من خارطة المدينة، ليستمر بالقدوم وانتظار أهل البيت، الذين أبقوا دليلا على وجودهم يوما ما هذا الكلب.
يغادر المدينة أبوبكر كل يوم بعد عمل مرهق في التصوير، فهو يستنزفه جسديا وروحيا، ويشعر بالخواء العقلي، فعقله أبى أن يستوعب هول ما حدث، فالمناظر هناك تجبرك على عدم النظر إليها ولو بلمحة، كي لا يلتهم الأسى جوفك.