حنان علي كابو
لم يكن من وظائف الشعر دغدغة المشاعر والأحاسيس،بالتغزل بالحب والوطن ،بل كان من أسمى وظائفه دق ناقوس الخطر،وإستقراء الواقع بلغته العالية ،ونبش التفاصيل الصغيرة والدقيقة ووضعها في مكانها تماما .
جاء سيل درنة رغم كل التحذيرات،وأصداء أخر ندوة في بيتها الثقافي لازالت شاهدة بعد أن جرفها السيل تماما ،وقصائد الطرابلسي الذي عرف عنه اهتمامه بالشأن الدرناوي خاصة وقضايا الوطن عامة ،وراح ضحية وغيره الأف .
فهل للشعر نظرته الثاقبة التي ترى ما خلف الأسوار ؟وهل له حدسه الذي لايخطيء ....؟
يستهل الشاعر الأديب أحمد بللو بمشاركته القيمة قائلا ...
. منذ البداية استطيع أن أوكد لك ما حدث لدرنة كان متوقعا منذ زمن .. وليس مفاجئا بالنسبة لي حينما رأيتها في يوم 4\3\1988 بعد غياب عنها ل 14 سنه .. أدركت انها ماشية نحو زوالها وعبرت عن ذلك بقصيدة صدرتها بمرثية كإستهلال .. وأعتبرتها " فتنة غابرة " وحين شهدت عدم الاكتراث بمسألة السد أيقنت أن ملحمة درنة مقبلة على تحولها إلى تراجيديا وهناك غيري كثيرون من جيلي الذين عاشوا اوجها في ستينيات القرن الماضي وشاهد بداية اضمحلالها وذبولها منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي ببداية تراجع الطابع المديني عنها ومصادرة إرثها الثقافي والحضارة.. وإقصائه .. وعدم الاكتراث بعملية تغيير طبيعتها الجائر.
وأضاف " وهناك قصائد لسالم العوكلي وعبد السلام العجيلي يبكون درنه ويرثون لحالها .. ومن بعدهم جاء جيل مصطفى رحمه الله وكان أكثر أبناء جيله إلتفاتا للشأن العام وأكثرهم جرأة في تبني قضايا المدينة والأكثر تعبيرا عن الكثير من ملابساتها
في هذه المسألة أستطيع أن أوكد أن تفاصيل ما سيحدث إن إنهار السد فهذا أمر معلوم وموثق بالتقارير من مختصين ، وحدثت نقاشات حوله ومتوقع من كثير من نخبة درنه ...
أما بخصوص تكريم مصطفى في ظني يجب أن يكون من خلال موقف المثقف من قضايا وطنه والتصاقه بالمكان وحرصه على الفعل فيه وتفاعله الجدلي مع منظومة قيمه وسلوكيته ومعاناته وهمومه وتطلعاته حتى ليغدو ضحية لماحذر منه هنا مكمن السؤال .. من الذي قتل الشاعر وإلى متى لا نعطي اعتبارا لما يقوله الشعراء والمثقفون
وفي نفس السياق تقول الشاعرة الأديبة عزة رجب إن
الشاعر شخص يقول الشعر كوسيلة وكوسيط للتعبير عن مكنونات نفسه وهموم وأفراح الكون، غير أنّ الشاعر يتنبأ بلغة الإلهام الذي يستلهمه من حوله فيصبح رائياً قولاً وفعلاً، .
وتضرب أمثلة من التاريخ قائلة "لقد كان لنا في شعر المتنبي والحلاج تجارب رائية تحولت إلى واقعية بعدما قالها الشعر، وكذلك نلمس هذا الأثر التخاطري في أشعار الخنساء عن أخيها صخر حين التمست واستشفت بعض ما سيؤول إليه حاله وحالها حتى سُميت كأحد أفضل شعراء الإنسانية الذين كتبوا قصائد حزينة ذات أثرٍ سامٍ ومشاعر إنسانية مؤثرة. ، فالكتابة وحدها من تملك مفتاح هذا السّر ومدى قوة روح الشاعر .وتأتي وتتقوى بواسطة استشفاف الشاعر لمحيطه ومدى ترقية إحساسه بالعوالم التي حوله ومدى نقاء قلبه وروحه وصفاء ذهنه وحضور الملكة وغزارة القاموس اللغوي، فلا يمكن أن يستوحي الشاعر الشعر بدون أن يمتلك تلك الأحاسيس الإنسانية السامية نحو البشر والميل لفعل الخير والسمو النفسي والروحي والخلقي كل تلك المفاتيح هي التي تُوحي له بكتابة الشعر ...و لأنّ الشعر هو نبوة الشعراء ..فليس كل شاعر راءٍ وليس كل من كتب الشعر كتبه وحياً أو إلهاماً فهنالك من كتبه نقلاً أو استيحاء لذا لا نبوءة شعر لمن لا يملك مفتاحها
وفي نفس السياق تضيف الشاعرة الروائية محبوبة خلفية
عندما نشرت إحدى الصديقات قصيدتي مصحوبةً بفيديو مؤثر جداً للمدينة الغارقة في الوحل والدموع وجزءٌ كبير من أهلها مازال تحت ثراها يرتجي رحمةً واستغاثة ذويهم تجوب الآفاق ولا من معين إلا من بعض الخيرين ولم يكن ذلك كافياً أبداً.
كان لهذا النشر دوي هائل وتعليقات بعضها فَسَّر كلماتي بأنها نبوأة!
لم تكن كذلك.
قصيدة (الساقية)
كانت مرثية لدرنة البلاد التي قُصفِتْ بشكلٍ وحشي وغير مبرر
. كانت معالم درنة التي نعرفها هُدمت بشكل ممنهج وكان من الممكن تفادي ذلك
. لكن قلبي كان متوجساً فختمتها بهذا البيت:
زعم حلم والا علم هللي صار والا قَدَرْ وكسرة ظهر متواصلة ضرباته نعم قد يتنبأ الكاتب أو الشاعر بما سيحل في المستقبل بناءً على معطيات الحاضر ،وشاعرنا مصطفى الطرابلسي فعل، حتى وإن كَدَّر الناس وأخافهم، فاعتذر وكتب نصاً آخر يقطر حبا لمدينته لكنه لم ينم يوماً مطمئناً لا هو ولا أهل درنة وخلف ظهورهم هول يعرفون أنه قادم لا محالة
ومن جهتها تضيف الشاعرة سهام الدغاري قائلة /
مما لاشك فيك أن ماحدث لدرنة هو قدر من عند الله عز وجل ولكننا نعلم بأن مامن سبب إلا وله مسبب وهذه الكارثة التي عصفت بمدينة الياسمين وعصفت بقلوبنا معها لها مسببات عدة من أهمها إهمال وتقاعص المسؤولين عن تأدية مهامهم على أكمل وجه والذي أقل مايمكن أن نصفهم به هو أنهم ذوو أيادٍ نجسة آثمة لم تخلق إلا للتخريب والفساد وهنا يجب التنويه بأني أقصد كل المسؤولين والحكام ابتداء من عهد القذافي تواليًا إلى الآن ولو عدنا بالنظر للوراء نجد أن لدرنة تاريخ عريق ابتداءً من بداية تأسيسها التي كان على يد الأندلسيين مرورًا بالفتح الإسلامي و بالعهد العثماني الأول ووصولًا إلى يومنا هذا الحقيقة لو أردنا الخوض في تاريخ هذه المدينة الزاهرة سنحتاج للكثير من الوقت ، فدرنة مدينة قديمة وعريقة شهدت على مر العصور توافد أقوام من كل لون وجنس على أرضها فدرنة ماقبل الفتح ودرنة بعد الفتح الإسلامي درنة في العهد العثماني درنة في عهد الأمويين والعباسيين وفي عهد الفاطميين والعهد القرمانلي ..نجدها هي هي درنة المدينة الليبية الأكثر تضررًا وأيضًا الصامدة الشًجاعة المحاربة ببسالة وصلابة وقت الحرب والحالمة الوادعة الزاهية وقت السلم ولعل أفضل من تغنى بها في شعره وعشقها وعشقته هي بدورها كان الصديق الشاعر المرحوم مصطفى الطرابلسي والذي رثاها قبل مايقرب من سبعة عشرة عامًا في قصيدته المعروفة عظم الله ياخوي أجرك فيها درنة انتهت واتريد من يرثيها إلى قصيدته التي نظمها قبل الكارثة بأيام ، والمسألة هنا ليست مسألة حدس أو حاسة إنما كانت للطرابلسي رؤيته الثاقبة وبصيرته النافذة في تقييم كل الأحداث التي توالت على مدينته وأعتقد أن هذا كان حال كل درناوي عاش وترعرع في درنة وعاصر كل الويلات والنكبات التي مرت بها هذه المدينة الفريدة أقول الفريدة لاشتمالها على مزايا جمة قلما تجتمع في مدينة واحدة سواها ،الطرابلسي أحبها حبًا خالصًا فحملها في قلبه دُرة ، دافع عنها ورثاها بكل ما أوتي من شعر ، ولا شك بأن للشاعر حسه الذي يتبعه ويصدقه فحُب الطرابلسي اللا متناهي لدرناه جعلها شغله الذي يشغله عن أي شيء آخر فلقد كتب الكثير من القصائد التي حاول من خلالها أن يحذر من انزلاق هذه المدينة إلى منعطف خطر ... كان خائفًا وكان يتوقع الأسوأ نظرًا لما يراه من إهمال ولا مبالاة فلقد كان هناك معطيات عديدة تشير إلى أن درنه سيؤول حالها إلى مصير كارثي وقد كان ولكن ورغم كل هذه الفواجع لسنا بيأسين فدرنة ستعود وستزهر من جديد لا بقرار مسؤول ولا بفعل حاكم ستعود درنة بأيدِ مواطنيها ومثقفيها وشعراءها وشيوخها وحتى بأيدِ أطفالها والذي ظهر أحدهم بعد الكارثة عند إحدى الإشارات حاملًا عقود الياسمين _ وكأنه يقول للعالم رغم كل ماحدث نحن باقون _