يونس شعبان الفنادي
ذكرتني لوحة الفنان التشكيلي صديقي الراحل مرعي التليسي التي بطلها طائرٌ جميلٌ يصدح في فضاء رحب ويعلن مدوياً انحيازه للغناء والحرية، بقصيدة الشاعر الفرنسي الشهير "جاك بريفير Jacques Prévert" (1900-1977م) التي عنوانها (لكي ترسُمَ لوحةً لطائر).
فالطائر الجميل الرشيق بجسمه الانسيابي المرن وريشه الخفيف الناعم، يبهرنا بحركاته الهوائية منفرداً أو ضمن أسراب جماعية محلقة في الفضاء، ويثيرنا بانقباض وانبساط جناحيه في دروس حركية وعملية لنظرية الطيران، ويدهشنا كذلك ببواكير أناشيده الصباحية الغنائية، ومثابرته الدوؤبة في السعي الحثيث لرزقه، وجمع عيدان القشاش البسيطة لبناء أعشاشه وبيوته التي تحتضن بيضه وفراخه. وإلى جانب كل ذلك فهو برشاقته وخفته ونعومة ريشه وألوانه الزاهية وزقزقاته وتغريداته الشجية، يمثل رمزية الحرية والانطلاق في السماء الرحبة الواسعة، وبين أحضان الطبيعة بأشجارها وغاباتها الفسيحة.
وطائر مرعي التليسي يؤكد لنا بأن حضور الطير في النص الإبداعي الفني والشعري والأدبي ليس جديداً، بل له جذور عريقة تعود إلى ما قبل الجاهلية وميلاد المسيح في نصوص الميثولوجيا الإغريقية والفرعونية القديمة، وكذلك في الرسالات السماوية مثل الكتب المقدسة والقرآن الكريم حيث ظهرت بالسور القرآنية "الطير الأبابيل" التي تأتي في جماعات وأسراب متتابعة، وكذلك "الهدهد"، و"الغراب" وغيرها، كما اختصه الباري سبحانه وتعالى بسورة مستقلة بالمصحف الشريف باسم "النحل"، باعتبار الطير كافةً أممٌ تشبه الأمة الأنسية في خصوصياتها (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ).
هذا بالإضافة إلى حضور الطير في أدبيات ثقافتنا العربية من خلال الحكم والأمثال مثل (ما طار طائرٌ وارتفع إلاّ كما طار وقع) و(الطيورُ على أشكالها تقع) و(كأنَّ على رؤوسهم الطير)، وفي المأثورات والأمثال الشعبية الليبية (الطير يقول وكري وكري) و(اللي ما يعرف الطير يشويه) و(اطلق الطير واجري وراه)، وأيضاً في كلمات الأغنية الرشيقة التي ألفها الكاتب فضل المبروك ولحنها وأداها الفنان محمد حسن رحمهما الله، ويظهر فيها الطير أيقونة للحرية بمخاطبته "يا طوير" ليس للتصغير والتقليل من شأنه بل كنوعٍ من الدلع والتدلل والملاطفة:
(مطلـــــــــوق سراحك يا طوير وين ما تريد اتعدّي عدّي
ومطلوق جناحك يا طويـــــر وين ما تريد اتهدّي هدّي)
وصور الطير بدلالات معانيها المختلفة ومضامينها العميقة تتشارك مع القصيدة الجميلة للشاعر الفرنسي التي ظهرت بعنوان (لكي ترسُمَ لوحةً لطائر) في ديوانه "كلمات" الصادر سنة 1946م، والتي تعد من أجمل القصائد في فرنسا حتى أنها وضعت ضمن المنهج الدراسي المقرر على طلبة المدارس والجامعات الفرنسية.
وقصيدة (لكي ترسُمَ لوحةً لطائر) المترجمة إلى اللغة العربية تتكون من ثلاثة وأربعين سطراً قصيراً، قمتُ بتقسيمها إلى سبعة مقاطع معنونة لكي أبعث بالقاريء تركيزاً شديداً دقيقاً في هيكل كل مقطع منها، وتأمل ما يحتويه مضمونها من جماليات صوره الفنية ودلالاته البعيدة والتي كلها تكرس مفهوم الحرية وكسر الأغلال والقيود والقضبان.
(1)
أرسمْ قفصاً أولاً
له بابٌ صغيرٌ مفتوح
ثم أرسمْ شَيئاً جذاباً
شَيئاً بسيطاً
شَيئاً جميلاً
شَيئاً مُفِيداً لِلطُّيور.
يستهل الشاعر المقطع الأول (رسم اللوحة) بفعل الأمر "ارسم" ثم تتابع المفردات البسيطة بكل وضوح في وصف القفص والذي يبدو سجناً كبيراً بمساحة الحياة كلها، بجميع ما فيه من مزايا شكلية وعملية أطلقها الشاعر عليه (جذاب، بسيط، جميل، مفيد) مما يجعله مغرياً ومحفزاً على المغامرة. ولكن يا تُرى ما أهمية ودلالة القفص طالما أن بابه ترك مفتوحاً؟ فشموس الحرية تبدو متاحة من خلاله، كما أن عدم تحديد "الشيء" المقترح بالنص يعزز حرية الاختيار، أي أن الباب المفتوح يمثل الحرية بشكلها المادي بينما حرية الاختيار ترمز للجانب النفسي والمعنوي منها.
(2)
ضَعْ اللَّوْحَةَ عَلَى شجرةٍ
أَوْ فِي حَدِيقةٍ
أَوْ فِي أرضٍ بُورٍ
أَوْ فِي غَابةٍ
إِخْتَبِئْ وَراءَ شجرةٍ
إبقَ صَامتاً
وَلاَ تتحركْ.
يتكرر أسلوب الاستهلال في المقطع الثاني (اختيار المكان) حيث يظهر فعل الأمر "ضع" منذ البدء، معيناً المكان المقترح وهو "شجرة" مع خيارات بديلة أخرى "حديقة" و"أرض بور" و"غابة" وكل هذه العناصر تنتمي إلى الطبيعة الخلابة بكل ما تشتمل عليه من مكونات حسية وذوقية جمالية وعملية وظيفية، وهي دعوة الروح والجسد للتعاطف الوجداني والعودة لرحاب الطبيعة أي إلى الثرى والأرض والشجر. ثم تتوالى أفعال الأمر بصيغ متعددة "اِختبيء، إبقَ، لا تتحركْ" فتبث في النص ديناميكية تفاعلية مع الصورة الفنية المرسومة، حتى كأن بالخطاب الثنائي يعزف قطعة موسيقية مكتظة بالمعنى والدهشة، وثرية بالجاذبية والترقب الذي يكتسي الكثير من الصمت والانبهار والانتظار.
(3)
أحياناً يصلُ الطائرُ مُسرعاً،
لكنه في أحيانٍ أُخرى قد يستغرق أعواماً.
لا تيأسْ،
انتظرْ،
انتظرْ لأعوامٍ إذا اقتضى الأمرُ.
سرعةُ الوصولِ أو تأخرُه
لاَ عَلاقة لَهَا
بنتيجةِ اللّوحةِ
يتبدل أسلوب المقطع الثالث (انتظار الطائر) وهو يشرع احتمالات وصول الطائر حسب مقتضيات زمنية ظرفية قد تطول كثيراً، ولهذا يظهر فعل الأمر "لا تيأس" منزرعاً في وسط النص لبعث الاطمئنان، ثم متبوعاً بفعل آخر "انتظر" متكرراً فيزيد دفقة التنبيه والتفطن والحرص، مع التأكيد بأن زمن الوصول لا علاقة له بانجاز اللوحة الفنية، مما ينفي الاستعجال في الفن التشكيلي كما يلغي ارتباط الانجاز بزمن محدد، لأن الإبداع الحقيقي لا سلطة زمنية عليه.
(4)
حِينَ يَأْتِي الطَّائرُ
إنْ حَدثَ ذلك
لُـذْ بصَمتٍ عَميقٍ
انتظرْ حتى يدخُلَ الطائرُ القفص.
المقطع الرابع (وصول الطائر) رغم عدم اليقين فإن الصمت يتكرر وفق قانون الشعر والفن، فالصمتُ هنا عبادة وتأمل وإبحار في اللون والنغم، واستقراء للكثير من المؤشرات المادية والحسية. ولذلك نجده مفروضاً بفعل الأمر "لُذْ" متبوعاً ب"انتظر" في إيحاء لأهمية اللحظة الحاسمة المرتقبة المتمثلة في مشهدية وصول الطائر ودخوله القفص، وهي قد تكون رمزية قاسية ترجعنا إلى عمليات الاصطياد والاعتقال والزج بالسجن وما بها من رعب لحظاته وإيلام قضبانه ووحشة أيامه ولياليه، فهل يكتسي النص بذلك المشهد قتامة واقعية؟ وهل يستمر سجن الطائر الجميل بكل رقته ووداعته وجماله ورمزيته في تلك الغياهيب السجنية؟
(5)
وَحِينَ يدخلُ
أَغْلقْ البابَ بِهُدوءٍ بالفُرشاةِ
ثم أَزِلْ جميعَ القُضْبَانِ وَاحِداً تلو الآخر
كُنْ حَرِيصاً أَلاَّ تَمُسَّ أيَّةَ ريشةٍ من ريشِ الطائرِ
ينعطف المقطع الخامس (دخول الطائر) بشكل مباشر على الصورة الفنية الجميلة للمقطع الذي سبقه بنفس الأسلوب الآمر "أغلق" و"أزل" و"كن" و"ألاّ تمس" إلاّ أنه يحمل مفاجأة سارة ومبهجة وهي إزالة "جميع القضبان" مع الإصرار على ذلك "واحداً يتلو الآخر" وهذا نزع للقيود بجميع أشكالها وانحياز صريح للحرية كقيمة وهدف نبيل. كما أن التحذير والتشديد على عدم إيقاع أي نوع من الأذى "ألاّ تمس" بهذا الطائر، ولو كان بسيطاً "ريشة من ريش" هو صون للكرامة واعتزاز بحماية الكيان جسدياً والحرية كقيمة نبيلة سامية.
(6)
ثم أَرْسِمْ لَوحةً لِلشَّجَرةِ
وَاخْتَرْ أَكثرَ الأغْصَانِ جَمالاً لِلطَّائرِ
أَرْسِمْ أيضاً أوراقَ الشَّجَرِ الخَضْراء
وَهُدُوءَ هَوَامِ العُشْبِ فِي حَرَارَةِ الصَّيْفِ
وَبَعْدَ ذَلِكَ، إِنْتَظِرْ حَتَّى يُشْرِعَ الطَّائِرُ بِالغِنَاء
يأتي المقطع السادس (رسم الشجرة والأوراق) ليصور مرحلة ما بعد وصول الطائر ودخوله القفص مع إزالة جميع قضبانه لتبدو الصورة الفنية لهذا المقطع طبيعية منبسطة ومسرورة بما تحقق، يتصاعد فيها التفاعل مع الحدث، ويستمر فعل الأمر في بسط سطوته الممتعة على النص ليظهر في "ارسم" و"اختر" وارسم" و"انتظر". وهذا المقطع يمثل المرحة الثانية في مهمة الرسم بعد الأولى التي تمثلت في (رسم اللوحة) بشكل عام، لتأتي عملية (رسم الشجرة والأوراق) مكملة للصورة الفنية التي تواصل خطوط الفرشاة نسجها بكل رقة وتناغم وفطنة رمزية مبهرة، تحضن فيها الطبيعة الخلابة طائراً جميلاً حراً، ولا تنقصها إلا حفنة نغمات موسيقية شجية وصوت يصدح بالغناء والطرب تعبيراً عن الفرح والانبساط، فهل ننتظر حتى يأتي هذا الغناء؟
(7)
اِنْتَظِرْ بَعْدَ ذَلِكَ حَتّى يُشْرِعَ الطَّائِرُ بِالغِنَاءِ
إِنْ لَمْ يُغنّيِ الطَّائرُ
فَتِلكَ عَلاَمةٌ سَيِّئةٌ
تَعْـنِي أَنَّ اللَّوْحَةَ غَيرُ صَحِيحَةٍ
لَكِنْ إِنْ غَنَّى فَتِلكَ عَلاَمةٌ طَيِّبَةٌ
تَعْـنِي أَنَّه بِإِمْكَانِكَ أَنْ تَضَعَ تَوْقِيعَك
لِذَلِكَ أَنْزِعْ بِكُلِّ لُطْفٍ
رِيشَةً مِنَ الطَّائِرِ
وَأَكْتُبْ إِسْمَكَ فِي زَاوِيّةٍ مِنْ زَوَايَا اللَّوْحَةِ.
جاء المقطع السابع والأخير (انتظار الغناء) مكتظاً بالتشويق ومطرزاً بالاحتمالات الصعبة التي تعكس مضمون النص بالكامل ورسالته التي ارتهنها هذا المقطع لاحتمالين ارتباطا بالغناء والشدو والطرب كناية عن الفرح والبهجة أو عكسهما، ويخصان الطائر وحده وهما إنْ "لم يغنّي" أو إنْ "غنّى". واستهل المقطع بالاحتمال الأول وهو سلبي يحمل علامة سئية تؤكد أن خللاً ما قد حدث في رسم "اللوحة" وبأنها ليست صحيحة ولا تنتمي إلى الحياة بكل ما فيها من رغبات إنسانية وتطلعات نبيلة. أما الاحتمال الثاني المتمثل في غناء الطائر فهو إشارة بأن اللوحة قد توافقت مع فكر وقلب الفنان الإنسان ومن ثم يستحق أن يسجل توقيعه عليها أثناء فضاء ثلاثي تتشارك "ريشة الطائر" و"يد الرسام" و"زاوية اللوحة" في توثيقه بهذه الصورة الجميلة فتغتني الحياة بالإبداع وتترسخ قيمه النبيلة بسلوكيات تتألق في واقع بهيج.
في الختام يمكننا القول إن قصيدة (لكي ترسُمَ لوحةً لطائر) للشاعر الفرنسي "جاك بريفير" بمقاطعها القصيرة السبعة (رسم اللوحة) و(اختيار المكان) و(انتظار الطائر) و(وصول الطائر) و(دخول الطائر) و(رسم الشجرة والأوراق) و(انتظار الغناء) لم تكن جامدة أو نمطية في هيكلية وتشكيل سطورها، بل نجدها ضاجة بالإيقاع الصامت الذي ترسمه الجمل والكلمات الرقيقة المفعمة بالحياة، والصور الديناميكية المتفاعلة بين الشاعر وطيف المخاطب الرسام بفرشاته وأدواته، وبساط اللوحة بكل ألوانه وخطوطه، والطير في رمزيته ودلالاته. والقصيدة بكل هذا الثراء المتنوع صاغت أنشودة للحرية والفرح في قالب حواري معبر وزاخر بالشاعرية والبهاء الذي أكد جمالية تعالق الأجناس الأدبية والفنية التشكيلية والسردية في تعاضد متماسك من أجل كيان ونسيج إبداعي موحد وجميل، تسيّده صوت متكلم واحد يلقي توجيهاته ويرسلها بأفعال آمرة متعددة لكائن فردي في الظاهر ولكنه يقبل التعميم بكل شمولية إنسانية.