حوار /حنان علي كابو
تمارس الروائية والقاصة والمترجمة أيضا تسنيم طه نوعان من الكتابة: الأول شغف التوثيق وكتابة اليوميات وتدوين الأحلام، وهو متنفسا ووسيلة اتصال بعالمها الداخلي؛ حتى لا تنسى نفسها طويلًا بين روتين مشاغل الحياة اليومية، والمسؤوليات العائلية والالتزامات المهنية؛ أما النوع الثاني فإنها تكتب لقارئ ما وتضعه نصب عينيها؛ فتنتابها تساؤلات وأحجية كلعبة مسلية تستمتع فيها بالتجريب والخلق والبحث عن تقنيات جديدة لصناعة الحبكات، وطرق شيقة لنسج القصص وسرد الحكايات.
حوار استقطعنا من خلاله " صنعاء القاهرة الخرطوم "تعرجا إلى خلف الجسر، مرورا بالترجمة، وتجربتها الأولى مع اللغة الفرنسية ومعضلة النشر.
صنعاء ..الخرطوم ..القاهرة أولى تجاربك الروائية ، البناء المعقد للرواية، هل له علاقة بشخصية شمس البطلة؟
حياة البطلة مرت بمنعطفات كثيرة ارتبطت بأحداث خارجية في الثلاث مدن التي عاشت فيها، وكان لا بد من إيجاد طريقة تمكنني من طرح تلك التفاصيل، بدون تهديد النص بثقل السرد الكرونولوجي للأحداث لذلك؛ لجأتُ لتقنية عمل العقل البشري، الذي لا يكف عن التنقل بين الماضي والمستقبل بسهولة ويسر دون أن نشعر بذلك؛ وعملتُ على تشذير زمن الحكاية وما يحمله من أحداث خارجية في اليمن (من حروب إلى توحيد لقسميها الشمالي والجنوبي، فثورة الربيع العربي، وحتى الحوثيين اليوم) وفي مصر (خاصة أحداث النكسة وثورة 25 يناير)، وفي السودان (منذ الممالك القديمة ومعارك المهدية إلى ثورة ديسمبر الأخيرة وفض الاعتصام الذي شهدته البطلة مع زوجها)، واستخدمتُ تقنية "الفلاش باك"؛ حتى يسهل عليّ الإحاطة بجميع الأحداث ودمجها مع قصص الشخصيات.
إلى أي مدى كان تأثير الأمكنة لتوثقها الروائية تسنيم طه في أولى تجاربها؟
للمكان دور كبير في إثراء ذاكرتنا البصرية والسمعية والشمية والحسية، وأحيانًا كثيرة تجبرنا البصمة العميقة التي تركتها تلك الأماكن في وجداننا، إلى الوفاء لها عبر الكتابة والتوثيق، وهذا الوفاء ليس بالضرورة مقتصراً على أماكن زرناها بالفعل، ولكن أيضاً يمكنه الامتداد ليشمل أماكن نتمنى زيارتها ونتخيل أنفسنا نتنزه في حاراتها الشعبية ونشم روائح طبخ سكانها وبهاراتهم، ونحس بلمس الأشياء فيها، ونميز تدرجات ألوان ملابس الناس السائرين في طرقاتها، وهذا ما حدث معي في كتابة هذه الرواية، ولكن رغم أن معظم الأماكن المذكورة في القاهرة أو في الخرطوم زرتها بالفعل وتركت بصمتها في وجداني، إلا أنني استدعيتُ تلك الذاكرة المركبة، أثناء استعانتي بمؤشر البحث "غوغل"، لإكمال صورتي عن بقية الأماكن، وخاصة داخل بصنعاء، التي لم أزرها حتى الآن وآمل زيارتها قريبا من أن تهدأ الأوضاع فيها.
تتناولين قضايا اجتماعية بصورة عامة، هل المرأة الأقدر على ترجمة قضاياها، ولو من خلال شخصيات رواية؟
ومن أقدر من المرأة على ترجمة قضياها؟ لا أحد. لكن للأسف، المرأة لا تملك الشجاعة دائما لمواجهة التعنيف الأسري والمجتمعي، وتحمل لسع سياط ألسنة المجتمع الشرقي، إذا ما تجرأت بالإفصاح عما لا يجب الحديث عنه في بيئة مليئة بالتاوبوهات، وبما أن الرواية عمل تخيلي حتى وإن حاولت إقناع القارئ بواقعية الأحداث، يمكن للمرأة أن تحتمي تحت مظلة هذا التخيل، وتهزم خوفها من الوصم الذي قد تتعرض له إذا ما استخدمت الطرق المباشرة للتعبير عن قضاياها.
ثمة اشتغال حقيقي وزخم معلوماتي لأجل التوثيق المعرفي، هل من مهام الروائي التوثيق؟
كل روائي يكتب عما يشغله أو يستهويه بالنسبة لي، أهتم كثيرا بموضوع المعرفة وتدوين الوقائع الاجتماعية والتاريخية المعاصرة لحقبتي، وربما هذان العنصران هما ما يحركان قلمي أثناء الكتابة، فأبدو وبصورة لا واعية أتجه نحو التوثيق، وهذه الكتابة غير الواعية تكلفني الكثير أثناء عملية إعادة الكتابة، عندما أقف وجهاً لوجه أمام تحدي حذف الفقرات المحببة إلى قلبي، تجنباً للوقوع في فخ الفقرات التقريرية التي تليق أكثر بالصحافة وقد لا تتناسب مع العمل الروائي.
كتبت القصة والرواية، متى تفرض كل منهما عليك؟
أغلب القصص القصيرة التي كتبتها جاءت ارتجالية في البداية، ضمن لعبة كنتُ أفرضها على نفسي بتحدي الالتزام بالكتابة مدة 33 دقيقة بدون توقف واتباع تقنية العصف الذهني، أما بالنسبة لكتابة الروايات، لا تجدي هذه اللعبة بالكلمات والوقت كثيرًا؛ إذ لا بد أن أجهز مخططاً مفصلاً للشخصيات والأمكنة والأحداث قبل البدء في الكتابة (باستثناء روايتي الأولى باللغة الفرنسية، لقربها من حياتي الواقعية والسيرة الذاتية منها إلى الخيال. ولهذا السبب بالتحديد؛ تخليتُ عن فكرة نشرها)، ولكنها تساعدني في كتابة الفصول بعد التخطيط المسبق لها، فكتابة الرواية ليست سهلة، وتحتاج لنفس طويل وصبر؛ من أجل المتابعة وإعادة الكتابة والحذف واللصق، حتى يرى النص النهائي النور، ضمن رحلة قد تستغرق شهور وربما سنوات. أما القصة القصيرة، فقد تنتهي في جلسة أو جلستين. ولكن رغم صغر حجمها مقارنة بالرواية، إلا أن كتابة القصة القصيرة ليست سهلة؛ وذلك لتكبيل شهوتنا في الانطلاق والشطح لسرد التفاصيل. وفي الحالتين، لا مفر لي من اللجوء لتقنية كتابة القصة القصيرة؛ ذلك أنني أعتبر كل فصل من فصول رواياتي قصة قصيرة منفصلة، تحتوي على بداية ووسط ونهاية غير متوقعة تهيئ للفصل القادم، بعد إعداد خريطة ذهنية قبل البدء في السرد، وفي حالة داهمتني فكرة فصل وألحت حتى كتبتها بصورة ارتجالية، أعود إليها لاحقًا لأضع لها خريطة ذهنية تساعدني على رؤية فكرتي بوضوح.
كتبت القصة والرواية باللغة الفرنسية، لماذا تحديدا هذه اللغة؟ أي سحر تحمله؟
عندما كتبتُ روايتي الأولى باللغة الفرنسية، كانت مجرد محاولة لتجريب التعبير وقول أشياء يصعب قولها في اللغة الأم، ثم رويدًا رويدًا، نشأت ألفة مع هذه اللغة خاصة بعد اتساع رقعة قراءاتي بها في مجالات الأدب والفلسفة وعلم النفس والتاريخ. لكن، اليوم ورغم إمكانية الكتابة باللغتين، إلا أنني أجد نفسي أميل إلى الكتابة باللغة العربية؛ ربما لأن وقعها في وجداني أقوى، ومفرداتها الفصحى تعيد إليّ فترة الطفولة النقية باسترجاع نبرات أصوات أبطال مسلسلات الكرتون. ولحسن الحظ، أننا امتلأنا في طفولتنا بمفردات العربية الفصيحة، التي لولاها لما كنا أن نتجاوز عقبات قواعد النحو والصرف اللغة العربية، التي تمثل اليوم، إحدى التحديات لمعظم الكتاب الشباب الذي يرغبون في الكتابة بها؛ ذلك أن العربية ما تزال لغة ثانية لأي شخص عربي.
ثمة هوة بين القارئ والكاتب بسبب دور النشر، برأيك كيف يتم تجاوز هذه المشكلة؟
ربما لأن معظم أصحاب دور النشر تجار كتب، وكل ما يهمهم الربح المادي، الذي يدفعهم للسعي بشتى الطرق لاحتكار حقوق الكاتب، ويرفضون ما عرض عليهم الكاتب بأن تكون هناك طبعات محلية لكل بلد عربي ليزيد من قرائه، بحجة أنهم لن يستطيعوا التحكم في بيع الكتاب؛ فتكون النتيجة إحساس مرير يصيب الكاتب بالتكبل، والقارئ بالإحباط، عندما يبحث هذا الأخير عن الكتاب عبر منصات البيع الإلكتروني ويجد أن سعر توصيل الكتاب لبلده باهظ الثمن بسبب اجتماع مصاريف الشحن والجمارك؛ ليجد نفسه أمام أحد خيارين: البحث عن نسخة إلكترونية مقرصنة، أو ترك فكرة القراءة برمتها، أما بالنسبة للكاتب الشاب، فحسرته مضاعفة؛ ذلك أن معظم دور النشر لا تنشر إلا للكتاب المشهورين. وعليه، فإذا كان متفائلًا؛ فسيقتنع بفكرة أن عليه الانتظار 10 سنوات حتى يتعرف عليه القارئ، وإلا فإنه-في حالة هزمه اليأس-سيُجبَر على الإيمان بفكرة أن على الكاتب العربي الانتظار حتى يموت لكي يتعرف القارئ على أدبه. أما عن سؤال: كيف يتم تجاوز هذه المشكلة؟؛ الإجابة: يصعب التنبؤ بإيجاد حلول لمثل هذا المواضيع الشائكة. ولكن، ربما يكون هناك حل عند اتحاد الناشرين العرب، إذا ما فكروا بجدية واتحدوا ليأخذوا بعين الاعتبار أن الوطن العربي الشاسع الممتد من المحيط إلى الخليج، لم تعد تفصله حدود جغرافية مع وسائل التواصل الاجتماعي ومنتديات القراءة والكتب. ففي هذا الفضاء الافتراضي لا توجد عراقيل فيها كما في الواقع (مثل صعوبة دخول بعض البلدان العربية الا بتأشيرة سفر صعبة المنال في أغلب الأحيان)، والجميع يمكنهم الدخول والإدلاء بآرائهم؛ ما نتج عنه حركة تبادل بين القراء لا يكدر صفوها إلا صدمة عدم تحقيق أحلامهم باقتناء الكتب العظيمة (ورقيًا)، بعد نيلها لنسبة ترشيح عالية. -
الترجمة.... متى تفقد النص بريقه؟
تقول أحد نظريات الترجمة أن "الترجمة خيانة". لماذا خيانة؟ لأن المترجم يمكن أن يخون المعنى دون وعي إذا لم ينتبه للأبعاد الثقافية لما ينقله من اللغة الأصل إلى اللغة الهدف. وكم من نص فقد بريقه أمام خوف المترجم من مفردات اللغة الهدف ومحاولته أن يكون وفياً لنقل الكلمات بالضبط. ومثال على ذلك، إذا ما كُتب في أحد اللغات الأوربية تعبير مثل " دفأ قلبي"، كناية عن السعادة، لا يجب نقل هذه الجملة كما هي؛ لأن دلاتها في اللغة العربية تقابل "أثلج صدري"؛ ذلك أنه سعادة نشوة الدفء في بلاد الصقيع والزمهرير، تقابلها نشوة البرودة والثلج في بلاد الهجير والشمس الحارقة.
الكتابة أي شغف تحمله؟
هناك نوعان من الكتابة أمارسهما في حياتي. النوع الأول، هو شغف التوثيق وكتابة اليوميات وتدوين الأحلام، والتي تكون ارتجالية بدون مجهود؛ لأن غرضها الرئيسي حفظ الذكريات والتأريخ والفضفضة والتخفيف من عبء الأفكار. أما في النوع الثاني، المتعلق بشغف الكتابة الإبداعية (كتابة القصة والرواية والمقال أو الخاطرة)، فالأمر ليس مجرد إخراج للكلمات من رأسي وتسجيلها على الورق أو على الكمبيوتر. ذلك أنني في الأساس أكتب لقارئ ما، وأضعه نصب عيني؛ فينتابني قلق وتساؤلات: كيف أجعله يقع في غرام ما أكتب؟ وهل سأكون واضحة في طرح فكرتي؟ وهل سأنجح في أن ألامس مشاعره وأجعله يتعاطف مع شخصياتي؟ وكيف أحافظ على عنصر التشويق وأحثه على مواصلة القراءة حتى النهاية؟ وفي حين أن شغف الكتابة في الحالة الأولى يمثل بالنسبة لي متنفس ووسيلة اتصال بعالمي الداخلي؛ حتى لا أنسى نفسي طويلًا بين روتين مشاغل الحياة اليومية والمسؤوليات العائلية والالتزامات المهنية؛ فإنني أراه في الحالة الثانية كلعبة مسلية استمتع فيها بالتجريب والخلق والبحث عن تقنيات جديدة لصناعة الحبكات، وطرق شيقة لنسج القصص وسرد الحكايات لتجميل قتامة الواقع ببهجة ألوان الخيال.
السيرة الذاتية تسنيم طه:
قاصة وروائية ومترجمة. سودانية الجنسية من مواليد شندي شمال السودان؛ خريجة كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية من جامعة النيلين بالخرطوم عام 2006، وحاصلة على ماجستير في العلوم الإنسانية من جامعة كليرمون فيران بفرنسا عام 2013. تقيم في باريس وتعمل موظفة بإحدى البعثات الدبلوماسية العربية في فرنسا، إضافة لعملها كمدرسة لغة عربية للناطقين بغيرها بأحد مدارس الجاليات المغاربية بباريس. لديها مدونة على موقع الانترنت؛ وتكتب القصة والرواية والمقال والخاطرة باللغتين العربية والفرنسية. صدر لها باللغة العربية حتى الآن: - رواية "صنعاء-القاهرة-الخرطوم" عن دار المصرية السودانية الإماراتية للنشر والتوزيع 2020 - مجموعة قصصية بعنوان "خلف الجسر" عن دار حروف منثورة للنشر والتوزيع 2021 - مجموعة قصصية بعنوان "مخاض عسير" عن دار مقام للنشر والتوزيع 2021. وحاليا تضع اللمسات الأخيرة على رواية جديدة سترى النور قريبًا.