طباعة هذه الصفحة

جماليات الفقد في الأدب العربي: حين يُصبح الغياب لغة للحضور مميز

في عالم الأدب، لا يُعدّ الفقد مجرد نهاية لحكاية، بل بداية لنصّ جديد، يُكتَب على هامش الذكرى، ويُحفر في لحم الذاكرة الحيّ. الفقد تجربة لا تمر، بل تستقر، تُبدّل داخلك دون أن تُشعرك بذلك فورًا. وحدهم الكُتّاب الذين ذاقوا وجعه العميق يستطيعون تطويعه إلى جمال، إلى حرف لا ينوح بل يُبصّر، إلى عبارة لا ترثي بل تُربّت على كتف المتلقي. في الشعر العربي منذ الجاهلية، كان الرثاء أول بوابات الفقد. نرى الخنساء في مراثي صخر، تكتب لا لتُخرج ألمها بل لتُخلّده، تبكي لا بدموعها، بل بماء اللغة. وبين طيّات كل بيت، ظلّ شقيقها حيًا في صوتها، كأن الحرف أنقذه من الغياب. وفي العصر العباسي، نجد شعراء مثل المتنبي الذي استحضَر غيابه عن الوطن وحوله إلى معانٍ فلسفية، فالفقد في شعره ليس مجرد فقد عاطفي، بل نقطة انطلاق للتأمل في علاقة الإنسان بعالمه. لاحقًا، حين جاءت نازك الملائكة، ألقت على الفقد نظرة أخرى: غياب لا يُبكى، بل يُحلّل، يُكتب في قصيدة تفتّش عن معنى الغياب لا شكله فقط. فقد كان شعرها يحمل رسالة فلسفية، حيث طرحت تساؤلات عن معنى الحياة والموت من خلال غياب الذات في عالم يمر به الإنسان كظلّ، خفيفًا وضئيلًا أمام لحظات الزمن. وحده الفقد، ذلك النصل الناعم، يجعل اللغة هشّة ومضيئة في آن. تقول غادة السمان في إحدى رسائلها: “كل حب هو تدريب على الفقد، وكل وداع هو احتراف مبدئي للموت.” وكأنها تقول لنا إن الحب لا يكتمل إلا حين يُختبر بالغروب، وإن الغياب أحيانًا لا يأتي ليأخذ، بل ليكشف كم كنا نمتلك. ما تكتبه غادة، ومن سار على دربها من الكاتبات، ليس رثاءً، بل توثيقًا للزمن حين يتكسّر. الفقد عندها لحظة تكتُب الزمن من جديد، لا كما وقع، بل كما أحسسناه، كما أفسد فينا ترتيب الحنين. في سرديات ضي رحمي، نلمح أثر الغائب لا في البكاء عليه، بل في التفاصيل التي تُضمره: فنجان القهوة الذي لم يُغسل، المعطف الذي لم يُرتدَ، الرسائل التي لم تُرسَل. إنها لا تكتب عن الموتى، بل عن ما خلّفوه في أرواحنا من طنين لم ينطفئ. غياب الأب، الأم، الحبيب، الوطن — لا فرق كبير، الفقد واحد، لكنه يتلوّن بمدى الحب السابق له. فالنصّ لا يكون صادقًا إلا إذا تلوّن بدمعة خفيفة لم تسقط، لكنها حملها كاملة. وإذا كان في الأدب العربي قديمًا نظرية تؤكد على التوفيق بين الإنسان والموت، فإن الأدب المعاصر يعيد النظر في تلك العلاقة، ويتساءل عن تأثير الغياب على من تبقى. الفقد ليس مجرد حدث، بل حدث متكرر، يتردد صداه في الذاكرة. إننا نكتب عن الفقد لأننا لا نحتمله. لأننا حين نخسره، لا نقدر على السكوت. وحين نصرخ، لا يرضينا الصوت، فنذهب إلى الكتابة. نكتب لأن الذاكرة خائنة، ونريد أن نوثق ما شعرنا به لحظة الانهيار الأولى. نكتب لأننا نرجو أن يُشفى شيء فينا، أو في قارئ لم نلتقِ به قط. وفي منتصف الذاكرة، ينبض هذا المعنى: “الفقد ليس فقد الشيء، بل فقد الطريقة التي كنا نحيا بها بوجوده.” إنه خلل في توازن العالم، في معنى اليوم، في شكلنا في المرآة. الفقد يُحدث قفزة في الزمن، ليصنع نقطة جديدة من الانطلاق. الفقد أيضًا يعيد ترتيب الزمن. فمن فقد أحدهم، يعرف كيف يتجمّد الوقت. تتحول الدقيقة إلى مسرح للذكرى، وتصبح الأشياء اليومية حوامل لأرواح من غابوا. الكرسي لا يُجلس عليه أحد، ليس احترامًا، بل لأننا نخشى أن تختفي ظلالهم. إن الغياب المادي يفضح الحضور العاطفي، وهو ما فهمته الكاتبة أحلام مستغانمي في رواياتها، حين نسجت من الفقد نسيجًا كاملًا من الحنين لا للحبيب فحسب، بل للزمن الذي جمعهما. الفقد يتخلل تفاصيل الزمن، وتصبح الكتابة نوعًا من البحث عن هذا الزمن الذي ضاع في مكان ما. لكن الفقد لا يتحوّل إلى أدب، إلا حين يُكتب دون نحيب، حين تُصفّ الكلمات كما لو أنها تعزي نفسها بنفسها، حين يقول النصّ للقارئ: “أعرف، أنت أيضًا فقدت، تعال نرثي معًا دون بكاء.” تلك اللغة التي تجمع بين النُبل والانكسار، بين رهافة التعبير وقسوة الشعور، هي ما يصنع من الفقد موضوعًا خالدًا في الأدب العربي. ختامًا، لا نكتب عن الغياب لننهيه، بل لنُبقيه. الكتابة لا تُنهي الحزن، لكنها تروّضه. وحين نكتب عن من فقدناهم، فإننا نمنحهم حياة أخرى، في سطر، في استعارة، في كلمة تُقال بعد أعوام، فترتجف لها الروح. ولذلك سيبقى الفقد موضوعًا خالدًا، لأنه الوجه الآخر للحب، ولأننا لا نكفّ عن الحب، لن نكفّ عن الكتابة. - غُفران جليد