طباعة هذه الصفحة

أمننــــــــا الاستراتيجي

الأستاذ/ خليفة النيهوم الأستاذ/ خليفة النيهوم

نحن نعيش في عالم مختلف عما سبقه ، فلم يعد تحقيق الامن والسلم شأننا وطنيا ، بل تعداه ليصبح امنا جماعياً ،واقليمياً ،وانسانياً في عصرنا الحالي ،الذى تتظافر فيه جهود الدول مجتمعه، ومهما امتلكت الدول من قدرات وطنية ، فلن تستطيع ان ترسم سياستها الأمنية ،بمعزل عن محيطها الجغرافي ، فلقد أصبحت الهواجس، والتأثيرات الأمنية تتعدى الحدود الجغرافية الوطنية ، وحتى القومية لترسم واقع جديد، سيخضع للتأثيرات الإقليمية ، وأصبح امن دول الجوار رافداً اساسياً للأمن الوطني ، ومرتبط ارتباط وثيق بتعزيز مستوى الامن الوطني ، ولن يتحقق استقرار دوله ما ، دون ان يتحقق الامن والسلم في محيطها الإقليمي ، وهذا ما دفع دول عديدة الى تأسيس روابط الإقليمية ترتكز على الاعتماد المتبادل فيما بينها ، متناسية أي خلافات كانت في الماضي ، فعالم اليوم لا يحترم حقوق من يعيش منفرداً عن محيطه ، ويتسلل اليه ليسلبه امنه، واستقراره الذى اعتاد ،فاصبح التكاثف والتعاون بين دول الإقليم ، سمة عصرنا الحالي ، لتعزيز امنها الإقليمي من خلال تسوية أي خلافات ، او نزاعات حدودية ، ومواجهة الهواجس التي تؤرقها، مثل انتشار التنظيمات الإرهابية ، ومافيات تجارة البشر، والمخدرات ، والأسلحة ، والقرصنة البحرية ، والأمن السيبرانى ، والحد من ظاهرة الهجرة غير الشرعية .

أصبح ابرام الاتفاقيات التجارية، والتعرفة الجمركية الموحدة، وتسهيل حركة رؤوس الأموال، والخدمات ،والسلع ، وتوحيد القوانين الضريبة ،التي تراعى اختلافات اقتصاديات دول الإقليم ، وتحقق التكامل الاقتصادي ، لتساهم في الوقاية من حدوث أزمات اقتصادية، وإيجاد الحلول الناجحة لها، وتطوير التواصل الاجتماعي، بين شعوب المنطقة في كافة المجالات، ومعالجة القضايا الأمنية بالوسائل السليمة، دون اللجوء للقوة العسكرية، وحلحلت الازمات الاقتصادية، ودراسة أي قضايا تزعزع الامن الإقليمي لدوله مجتمعة، اقتصادية، سيبرانية، بيئية، ووضع خطط تتماشى مع الواقع المعاش، وتحقق توافقا سياسية، وتضع الحلول للتهديدات البيئية للوقاية منها، والحد من انتشارها ليتحقق الامن، والسلام بتظافر جهود دول الإقليم مجتمعة.

لم تعد الدولة الغنية قادرة على تحقيق الاستقلالية الأمنية ، كما اعتادت من قبل، بل أجبرت على تغير الاستراتيجيات ،والخطط ، فأصبحت الدول الصناعية الكبرى ،تعقد اتفاقيات مع دول اقل منها شأنً لتساهم معها في تحقيق امنها ، من خلال وضع برامج مشتركة ،لتدريب اطقمها الأمنية والعسكرية، وتطويرها لتتماشى مع متطلبات عصرها ،مما يلزمها بدفع نفقات مالية ، لتحقق هذه الدول امنها الوطني ، لينعكس بالتالي عليها لتنعم بالسلم ،والاستقرار الذى تنشده ، وظهرت مصطلحات جديدة تعكس الواقع المعاش بداية بالجيش الإقليمي ،فقسمت قارة أفريقيا الغنية بالثروات ،والمليئة بالصراعات الطائفية والحدودية والانقلابات العسكرية ، من خلال الاتحاد الإفريقي إلى أقاليم خمسة جغرافياً ،لتكون دولها قوة الإقليم مبدئياٌ ،أملا في تحقيق جيشها الأفريقي مستقبلاً، بداية بإقليم شمال أفريقيا، الذى تشاركت دوله في قوة إقليمية ، تحت مسمى  قوة شمال أفريقيا، وانتهاء بقوة وسط أفريقيا ، ليصبح من حق دول الإقليم ،التدخل عسكرياً لفرض القانون، والنظام بأي دولة تشهد صراعات داخلية، قد تتطور وتتسبب في خلل بأمن الإقليم ككل ،  كما برزت قوة عسكرية أمنية جديدة سميت خفر السواحل الإقليمي ،للوقوف في وجه عصابات القرصنة البحرية، في الممرات ،والمضائق البحرية ، التي امتهنت الابتزاز والقتل دون تميز بين الدول ،وأثرت على خطوط الملاحة البحرية ،وتجاوزت دولها، واقليمها، لتهدد بخطرها العالم أجمع ،  كما برز مفهوم جديد هو الامن الفضائي للإقليم ، تستخدمه الدول المتقدمة صناعيا في مجال الفضاء ، وتراجع مفهوم السيادة الجوية الوطنية ، والمجال الجوي واصبحا من الماضي .

تتجلى أهمية الامن الاستراتيجي حالياً، من خلال ما يتم من ندوات وحلقات نقاش ومؤتمرات عالمية تقدم توصيات تتناغم معه، وتحاول سبرا اغواره، ويعكف الباحثين على أبحاثهم، ودراساتهم، وتنتشر مراكز الأبحاث عبر القارات في محاولة لتقديم المشورة وإيجاد الحلول مستقبلا وتظهر كتب متخصصة، يحاول كتابها رسم ملامح الأمن الاستراتيجي، وتحديد مفاهيمه وأبعاده، وخصائصه.

مفهوم يعتبره البعض يتسم بالغموض، باعتباره مفهوم حديث معاصر، يتداخل مع غيره من العلوم ، كالعلوم السياسية ،والاقتصادية، رغم أهميته القصوى ،إلا أنه لم يتبلور تماماً ليصبح حقلا علمياً، يتم تطبيق قواعد النظريات المعروفة عليه بداية من الفروض ،ومعرفة مناهج البحث العلمي اللازمة ، تم اختيار الأدوات المناسبة ،وتطبيق قواعد الإثبات والنفي ،توافقاً مع نظرية ملائمة يتم تعميمها  ،لها تجارب حققت نتائج ملموسة ،كنظرية المجتمع العالمي للأمن ،ونظرية الدولة العالمية والامن ،ونظرية الأمن الشامل ، ختاما بقانون يحكم الأمن الاستراتيجي .

وتحاول ليبيا اللحاق بالركب من خلال عقدها مؤتمر للآمن السيبرانى لمواجهة التهديدات السيبرانية في عالم متغير، بمشاركة محلية، وعربية، في محاولة لدراسة إمكانية صناعة فضاء عربي، وإقليمي آمن لتداول المعلومات الموثوق بها، والحد من تأثيرات مواقع التواصل الاجتماعي العالمية، على الأمن القومي الليبي، وتوعية الشباب بالأخطار المحيطة بهم، والعمل بالقانون رقم 5 لسنة 2022 م، بخصوص الجرائم الالكترونية، التي أصبحت تشكل تهديداً للفرد والمجتمع ككل.

هناك ضرورة ملحة لاستحداث مراكز متخصصة في مجال الأمن السيبرانى، للغوص في أعماق الفضاء السيبرانى، والتعايش مع بيئته المضطربة، المليئة بالتهديدات، والمخاطر، ورفع مستوى الوعي، وخوض التحديات لمواكبة العالم الرقمي، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، بأبعادها التقنية والقانونية، للوقاية من الهجمات السيبرانية أولا، ثم وضع استراتيجية أمنية سيبرانية بعقيدة وطنية.

ورغم الحجم الهائل للمعلومات المتدفقة عبر العالم، وتنوع الاختيارات لدى المستخدمين، وحجم التهديد الهائل على مختلف الأصعدة المحلية، والإقليمية، والعالمية، إلا إننا مازلنا نعمل من خلال مفاهيم قديمة لا تمت للواقع، وعصرنا المتناهي السرعة بصلة، فالأمن الوطني أصبح من الماضي، ولا زلنا نتمترس ونستبسل خلف حواجز وخنادق، لا تستطيع التصدي للحروب الهجينة التي تتغلغل للعمق، مستهدفة الفرد لتهزمه في بيته، وليس عبر اجتياح بقوات عسكرية لحدود دولته، براً، وبحراً، وجواً. مع عدم وجود خطط أمنية استراتيجية، ترقى لمستوى التهديد، وتساهم بتطوير التقنية.