طباعة هذه الصفحة

مفهوم الأمن.. وتأثره بالعوامل المحيطة عبر الزمن

الأستاذ/ فرج عيواز الأستاذ/ فرج عيواز

 اختلفت البشرية في تفسيرها لمفهوم الأمن، فكل راءه حسب ظروفه و احتياجاته، و قد تأثرت هذه الآراء بعدة عوامل، منها الزمان والمكان والبيئة والمعتقد، ومدى النضج الفكري، وهذا ناتج عن أهميته في حياتنا ولأنه فطري غريزي، فهو حاجة ماسة للإنسان، فبدونه لا يمكن للإنسان أن يحي حياة سعيدة، ويتطور ويحقق النجاح ونظرا لهذه الأهمية، فقد اُستغل الخوف من جانب المفكرين والسياسيين، ورجال الدين، لتحقيق أغراضهم المختلفة باتباع سياسة الترغيب والترهيب (العصا والجزرة)، فالإنسان بطبيعته، يخاف على نفسه و يخاف منها، و يخاف من غيره و من المحيط و البيئة ، و من الماضي والحاضر والمستقبل، وتقدم العمر، و من الموت وما بعده ، و هذه يمكن إن نسميها محفزات أمنية.

 ويخاف أيضا من الظلم والقهر والاستعباد، والجوع والعطش والتعري والفقر، والخيانة والغدر، والفشل والهزيمة، والمرض وعلى بيئته ومحيطه، وعلى قيمه الثقافية والاجتماعية والأخلاقية والدينية، وعلى قيمته في الأسرة والمجتمع والدولة.

 والحديث يطول جدا في سرد كل ما يخاف منه الإنسان سواء في محيطه المجتمعي أو مخاوف متأصلة في نفسه، لذلك فهو بحاجة للأمن والبحث عنه، بكل مرادفاته في اللغة كالطمأنينة والثقة واليقين، والسلام، والسكينة والدعة والهدوء.

بما أننا في طرحنا هذا نركز على مفهوم الأمن فلابد لنا أن نتطرق له ولو بإيجاز إلى مفهومه في "اللغة والدين" بشكل رسمي أي لغة، وآراء بعض المفكرين والمدارس التي تطرقت إليه اصطلاحا.

إن لارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم، أثر كبير، لذلك فمن الصعب فهم الأمن من خلال احدهما دون الرجوع للآخر، فلغتنا تمتاز بعدة خصائص، منها تعدد المترادفات للكلمة الواحدة، ورغم أنها تختلف في الاستعمال درجات إلا أنها تصب في مفهوم الأمن الذي نسعى لتوضيحه في هذه السطور، وهذا ما توضحه الآيات الكريمة التالية "وإذ قال إبراهيم رب أريني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي" الآية 260 البقرة في هذه الآية يقول الخليل عليه السلام ليطمئن قلبي، بينما في آية أخرى يطلب نبي الله إبراهيم الأمن (ربي اجعل هذا بلدا أمنا ) من الآية 37 سورة إبراهيم.

 وفي سورة قريش (أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) أي منحهم الأمن، وكذلك قول الله (وضرب الله مثلا قرية كانت أمنة مطمئنة) الآية 112 من سورة النحل، ومن هنا نستنتج أن الطمأنينة تستعمل للمطلق الذي لا يكون إلا مع رب العالمين، وهي تمثل العلاقة بين الإنسان وخالفه، وهي أعلى درجات الأمن، الذي طلبه الخليل عليه السلام، أي السكينة واليقين الذي لا يخالطه الشك في الله، بينما الأمن هو علاقات إنسانية.

وما انفك المفكرين والمدارس يتناولون مفهوم الأمن، للوقوف عليه عن كثب، فأتت الآراء مختلفة فيما بينها، فبينما يرى فمكيا فيلي (1469) إن الأمن هو إدارة الخوف لتحقيق سيادة الدولة على الرعية مقابل الأمن. يرى توماس هوبز (1588)، من خلال (نظرية العقد الاجتماعي) أنه لا تنمية بدون أمن، وهذا توافق عكسي عجيب، بينه وبين روبرت ماكنامارا (1916) الذي يعرف الأمن على أنه تنمية، وبالتالي من وجهة نظره أن الدول التي لا تنمو، في الواقع هي غير أمنة.

من جانبه يرى مونتسكيو (1689) أن الأمن يتحقق من خلال الحرية السياسية، فالقوانين الجائرة لا تولد الشعور بالأمن، أما آدم سميت (1723) يرى في الأمن حماية الإنسان وممتلكاته (الرأسمالية الغربية)، وكارل ماركس يرى في العدالة الاجتماعية والقضاء على الطبقات، هي التي تحقق الأمن، (الاشتراكية الشيوعية).

 وكان لهتير محمد (ماليزيا 2003_1981) رأي جامع مانع حيث يرى بأن هناك علاقة شرطية تربط الأمن بعدة عناصر أخرى، لا تقتصر على القوة العسكرية فالاستقرار السياسي والاقتصاد والتجانس الاجتماعي، كلها عناصر لا تنفصل عن الأمن.

إذا ماذا تقول المدارس المختلفة التي أرست بعض القوانين في عدة علوم أخرى حول مفهومها للأمن؟  إذ أن معظم هذه المدارس ومنها المدرسة الواقعية تشكلت تحليلاتها حول الدولة والأمن الوطني والقوة العسكرية، وأن الدولة ليست الفاعل الوحيد في العلاقات الدولية، وأن مفهوم الأمن الوطني، ليس بالضرورة مصطلح يحمل نفس المعنى لكل الأطراف.

فيما ترى المدرسة البنيوية أن تعدد الفواعل مع بقاء الدولة هي الفاعل الرئيسي والمتحكم في البقية، وان القوة العسكرية ليست الضامن الوحيد للأمن الوطني، ولا هي المصدر الوحيد للتهديدات، وتعتبر مدرسة كوبنهاجن الدولة فاعل رئيسي و محوري في العلاقات الدولية، و الحفاظ على الأمن يقع على عاتقها، و من أهم إسهاماتها فكرة قطاعات الأمن،  وتعتبره  إطار شامل تتداخل و تتشابك فيه مجموعة من العناصر، المتخصصة في مجال أمني معين، لا يتحقق الأمن إلا من خلال تحقيقها، والقطاعات هي: السياسي، العسكري، الاقتصادي، الاجتماعي، البيئي.

كل ما سبق يقودنا إلى نقطة محورية تسعى البلدان إلى تحقيقها والحفاظ عليها ألا وهو الأمن بمختلف أشكالها ومرادفاته وتعريفاتها، فظهر بذلك مصطلح الأمن الوطني عام 1947 م في الولايات المتحدة الأمريكية، وتم تحديد مهامه في السياسات الامنية الأمريكية، ومهام استشارية في ذات المجال وهذا يوضح إن الرئيس الأمريكي، ليس رئيس دولة بقدر ما هو رئيس إدارة، مثل أية إدارة في الدولة الأمريكية، فهو ينفذ سياسات وكالة الأمن القومي الأمريكي.

وهناك أحداث وقعت عبر التاريخ، أثرت في فهم الأمن، وتطوره، كالحركة الاستعمارية في القرنين الثامن والتاسع عشر، والحربين العالميتين الأولى والثانية والحرب الباردة، والحظر النفطي الذي فرضه العرب على الدول المؤيدة للإسرائيل عقب هزيمتها 1973 وانهيار الاتحاد السوفيتي، وتفرد أمريكا بالعالم، والربيع العربي، وحرب روسيا الاتحادية في أوكرانيا 2022، كلها أحداث وعوامل أثرت وستؤثر في المستقبل على طرح مفاهيم جديدة في الأمن أكثر دقة وشمولية.

 وفي الختام علينا أن نستفيد ممن سبقونا في هذا المجال، ونضع نظرياتنا الخاصة بنا، التي على ضوئها نسوغ مفاهيمنا ومصطلحاتنا، والتي تتوافق معنا وتؤمن مصالحنا الداخلية والخارجية. على أن تضفي عليها الصبغة القانونية من الجهات التشريعية.