طباعة هذه الصفحة

"أنا" النص و صاحبه إشكالية تلقي بظلالها كثيرا....! مميز

محمد قصيبات، فاطمة الحاجي، محمد المفتي محمد قصيبات، فاطمة الحاجي، محمد المفتي

حنان علي كابو

يستوقفنا نص ما لأنه لمس شيئا بداخلنا ،حركه من بحيرته الراكدة ،أيقظ حواسه دفعة واحدة ،لم نتساءل لبرهة من كاتبها ومن ترك توقيعه يومض كلما قرأه أحدنا أو أستدل به .
وقعه كمذاق الشهد أو أكثر ويقفز لسان حالنا ونحن نردد بدهشة ممزوجة "الله "كيف تسنى له ذلك .
ولكن هل يتغير هذا النص الأدبي مهما بلغت مقاييس جماله وذائقته الفنية وبلاغته البنيوية في أي يتضاءل اعجابنا به عندما ندرك حقا بشاعة فعل صاحبه وقبح مواقفه وسوء اخلاقه ...؟
تساؤلات طرحت من قبل الأستاذ الكاتب الشاعر جابر نور سلطان حيث كتب "هل يمكن أن نفصل بين الأديبِ وبين أخلاقه... بين النصِّ وصاحبه. هل تستسيغ جمالَ النص وأنتَ تدرك تماماً قبح صاحبه؟؟"
فتناولها بأبعادها الدكتور محمد قصيبات في مقال ، وأثارت حاستي الصحافية في أن أوجه هذه الأسئلة لثلة من مبدعينا يشاركوننا وجهة نظرهم في هذا التقرير

 

التاريخ لايرحم أحدا...!


يشير الدكتور محمد قصيبات إنها من أهم الأسئلةِ التي وضعها النقاد منذ بدايةِ النقدِ الحديث.حيث قال "لقد حاول الفرنسيون الإجابة عن هذا السؤال .. ففي القرن التاسع عشر ربط "شارل أوغستان سان بوف" بين إبداع الكاتب وسيرته الذاتية حتى جاء الروائي "مارسيل بروست" ليغير كل شيئ ويفصل بين الاثنين ويكتب كتابه المشهور "ضد سان بوف" والذي لم ينشر إلا بعد موته بعشرات السنين وبالتحديد في عام 1954.. لقد غضب بروست من سان بوف الذي أهمل شعراء مثل شارل بودلير وجيرارد دو نيرفال بسبب أخلاقهم التي لم تكن تناسب عصرهم فلقد احتج بروست وقال أن سان بوف بعيد عن النقد فهو لا يعرف أن ال"أنا" التي تكتب هي غير ال"أنا" التي تتحدث في الصالونات والأماكن العامة أو ترتكب الموبقات وكان من بين مؤيدي سان بوف عدد من الكتاب على رأسهم هنري جيمس.
وضرب قصيبات بعض الأمثلة من الساحة الأدبية الأوربية حيث قال "أولها تجربة الكاتب الفرنسي "لوي فيرديناند سيلين" الذي ارتبط اسمه في فرنسا بالخيانة. وهل هناك أكبر من خيانة الوطن.. لقد وقف هذا الكاتب مع هتلر في وجه شعبه وكتب الكثير من كتبه متفقا مع ومادحا للنازية ودافع عن هتلر. لقد حرقت فرنسا كتبه بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وحكم عليه بالسجن غيابيا وصدر في حقه فيما بعد عفو رئاىسي وعاد سيلين إلى وطنه واعتبره الفرنسيون واحدا من أكبر كتاب القرن العشرين لقد مدحه ومجده وتأثر به عدد كبير من الكتاب فازوا بجائزة نوبل للآداب من بينهم الفرنسي لو كليزبو والألماني غنتار غراس وكذلك كتاب مثل جان جينيه وسارتر وبارث وآخرون لا يقلون شأنا مثل صمويل بيكيت وروب غرييه.
وأضاف "بالطبع بقت خيانة سيلين في كتب التاريخ للأجيال القادمة فالتاريخ لا يرحم لكن أحدا لم يقاطع كتابات سيلين ولم يعاود الفرنسيون طباعة كتبه الأولى إلا روايته "رحلة في عمق الليل" هي واحدة من أكثر الروايات انتشارا في تاريخ الأدب الحديث."
ثم هناك مثل أقرب وأكثر حداثة يتعلق بالكاتب النمساوي "بيتر هاندكيه" صاحب رواية "قلق حارس المرمى أثناء ضربة الجزاء" وهو كاتب كبير لكن وقوفه مع معسكر الشر كما يقولون وبجانب السفاح ميلوسيفيتش في حربه ضد البوسنة خلق صدمة كبيرة في الوسط الثقافي الأوروبي ...
نهاية الحكاية؟
ذهب ميلوسيفتش إلى النسيان ولم يفكر أحد في مقاطعة أعمال هاندكيه
فبعدها بسنوات منح هاندكيه جائزة نوبل للآداب وذلك في عام 2019.
لا داعي للحديث عن كتاب جنوب أفريقيا ولا الذين وقفوا مع ستالين ففي ذلك كلام طويل. أما جاي جاميسون فقد لخصت الأمر قائلة 'نتسائل فيما لو كان الأدب الغربي هو في الواقع حصيلة أعمال معتوهين وأناس غير أسوياء" .. فلو قرأنا النصوص على طريقة "سان بوف" فلا شك إننا سنضع في القائمة السوداء كتابا لا حصر لهم مثل شارل ديكنس وفيكتور هوغو وموباسان وهيمنغواي ونيرودا وفوكو وسارتر وسيمون دو بوفوار وغيرهم كثيرين.... 


الأعمال الأدبية في جوهرها تعبير عن مواقف إنسانية..!


يعتقد الدكتور والكاتب محمد المفتي أن التركيز على علاقة النص بصاحبه ..هي من اختراعات النقاد. فكم من نص شعري ينال اعجابنا دون أن نعرف قائله. وكم من روائيـين ذاع صيتهم ونكتشف سوء سيرهم. حيث قال " للأسف قد يحدث هذا الفصل دون قصد فمثلا كم من "أديب" وشاعر التصق بالطغاة وتملقهم ونظم شعرا يتغنى بالحرية. ففي مجال الشعر لدينا عشرات الشعراء ، لكن لدينا شـلطامي واحد في حقبة السبعينيات .الأعمال الأدبية والفنية في جوهرها تعبير عن مواقف إنسانية ولابد أن تقاوم كل ما يـقـهـر الإنسان وتنتصر لحريته وطموحه للعدالة."


ذائقة المتلقي هي الفيصل !


ذهبت الدكتورة فاطمة الحاجي الكاتبة والروائية في تناولها إشكالية النص وعلاقته بأخلاق مؤلفه إلى تاريخ المسألة النقدية التي أثيرت حوله بامتداد العصور حيث قالت "يعتبر النقد من أهم المواضيع الفكرية الفاعلة في عملية التطور لكل المجتمعات ومناقشة الفصل بين الأديب وأخلاقه مسألة نقدية أثارت آراء مختلفة على مر العصور"
أما عن الفصل بين النص وصاحبه فهي تراها مسألة أكثر أهميةحيث تقول". في نطاق نظرية التلقي لابد من الإشارة العلمية إلى العلاقة التي تنشأ بين الكاتب والقارئ وهي تنتج أصلا من خلال الرسالة وهي النص الأدبي بكل أجناسه. فتأثر القارئ الانفعالي المتعدد وسبر أغوار جماليات النص ودلالاته يأتي أولا من خلال النص بغض النظرعن سمات أوهوية المنتج لهذا العمل وتتدخل عدة عوامل نفسية واجتماعية في عملية التقييم، وأحيانا نتوقف إعجابا عند نصوص لا نعرف قائلها أصلا. والإجابة على هذا السؤال تتطلب الكثير من المرونة نتيجة لتداخل وتشعب كثير من المسائل ،ويختلف تلقي النص من قارئ إلى آخر وعند التأمل في التاريخ الأدبي نكتشف أن هناك عديد الأدباء الذين وصلت نصوصهم لأعلى مراتب الجمال والإتقان الفني وانتشرت على مدى واسع ولكننا قد لا نرضى عن بعض سلوكياتهم التي يعتبرها البعض غير أخلاقية ."
وتضرب مثلا من الذاكرة الأدبية قائلة " ولتكون الصورة أقرب لوقرأنا ما في التراث الإنساني لوجدنا ان بعض الأدباء لا نرضى عن سلوكياتهم لكنهم وصلوا لقمة الإبداع الفني وأثروا الذاكرة الأدبية الإنسانية بهذه الأعمال مثل عمر ابن أبي ربيعة وشعره الذي لا يليق بحياء المرأة وسمي شاعر الغزل دون منازع ومازلنا نردد شعره "قالت الصغرى وقد تيمتها قد عرفناه وهل يخفى القمر"وابو نواس مازلنا نطرب لشعره رغم تغنيه بالخمر والمنكر ، واوسكار ويلد الكاتب المسرحي ، و"سومرست موم" الروائي البريطاني وكان كتابه في أدب الرحلات من أهم الكتب ، وفرجينا وولف أهم كاتبة في القرن ، و وولت ويتمان، وغيرهم ،من ناحية أخرى وحسب المتلقي نجد من يرفض هذه النصوص وأن كانت نصوصا فنية راقية لأنه يوجه بؤرة نظره لمنتج هذا النص وسلوكه قبل إنتاجه الفني ويعتبرها نصوصا لقيطة لا تعبر عن رأي كاتبها."
وتختتم قائلة " ومن وجهة نظر أخرى لا نجد أنه بالضرورة يجب أن تعبر عن أخلاقه لأن النص يخضع لعوامل كثيرة في إنتاجه. وقد سادت مدارس نقدية في فصل الكاتب عن نصه ، وفي استقلالية النص، وتبقى ذائقة المتلقي هي الفيصل في تقبله لكنها لن تمنع نجاح العمل المتقن فنيا وأدبيا."