في زمنٍ تتقاطع فيه الأزمات السياسية مع الانهيار الاقتصادي وغياب الأمن ، يتهاوى ما تبقى من مقومات الحياة الكريمة ، وحين تغيب الدولة وتضطرب مؤسساتها ، يختل التوازن بين البقاء والكرامة ، وتضيع الصحة في زحمة الفوضى والدم والركام ، وتتحول الشوارع إلى ساحات مفتوحة للعنف ، وتختفي شبكات الحماية الاجتماعية التي كانت تقي الناس فقر الحاجة وذل السؤال ، ويجد الشباب أنفسهم بين خيارات مرة ، وفي هذه الأجواء المشحونة بالخوف والحرمان ، تكثر الحوادث والاشتباكات المسلحة ، ويصبح الجسد هدفا والروح عبئا ، ويتسلل تجار الموت من كل زاوية مخدرات وسموم ومسكرات ومذهبات للعقل ، يزرعونها في عقول المراهقين والشباب ، حتى يصبح الإدمان بوابة الخراب الأولى ، فلا عودة منها ولا أمان بعدها ، وينتشر العنف في الأحياء ، وتتشوه صورة المجتمع المحافظ الذي كان يوما واحة أمن واستقرار وتماسك أسري ، وتبدأ السلسلة القاتلة إدمان وأمراض معدية ومزمنة وخطيرة وانهيار المناعة وتفشي الإيدز وتفكك أسري وجرائم غريبة ووصمة اجتماعية وموت بطيء للوطن ، ولم يعد المرض في الجسد فقط بل في القيم وفي الثقة وفي التربية وفي العلاقة بين الناس وبعضها ، وحين ينهار الوعي تتفكك الأسر ، ويُترك الشباب فريسة لليأس والاحباط ، وتذبل فكرة المستقبل ، ويغيب الإحساس بالانتماء ، ولمواجهة هذا المشهد المأساوي ، يصبح بناء نظام صحي قوي ومتماسك واجبا وطنيا وأخلاقيا ، ليس مجرد مشروع إداري إنما نظام يدمج بين الوقاية والعلاج وإعادة التأهيل ، يضع الشباب في قلب الاستراتيجية ، ويوسع من نطاق خدمات الصحة النفسية والاجتماعية ، ويعيد الثقة إلى المجتمع بأن الدولة حاضرة لحمايته لا لمعاقبته ، ولا يمكن فصل الصحة عن الوضع الاقتصادي والاجتماعي ، فالفقر يولد المرض ، والبطالة تزرع الإدمان ، وانعدام الأمل يغذي العنف ، والحل لا يأتي من المراكز الصحية وحدها ، بل من مشاريع وطنية تعيد بناء الوعي ، وتعيد تعريف معنى الحياة الكريمة ، وتربط الأمن بالصحة ، والتعليم بالوقاية ، والاقتصاد بالاستقرار ، إن التوعية المجتمعية أصبحت ضرورة وطنية ، لا سيما بين فئات الشباب واليافعين ، فهم أكثر الفئات تعرضا للمخاطر والانجراف ، وأكبر الأمل في الإصلاح والنهضة ، ويجب أن يمتد الاهتمام بهم من رياض الأطفال وحتى الجامعات ، عبر منظومة تعليمية وصحية متكاملة ، تراعي أعلى المعايير والمواصفات العالمية ، وتوفر الرعاية الصحية النفسية والعقلية والمشورة على مدار الساعة ، بما يضمن سلامة الجسد والعقل والوعي معا ، كما أن الاقتصاد الاستهلاكي والطبقي قد عمق الفجوات الاجتماعية ، وزاد من ظواهر الانحراف والسلوكيات السلبية ، وأثر سلبا على وعي الشباب وثقتهم بالمجتمع ومؤسساته ، مما يستدعي سياسات اقتصادية واجتماعية عادلة تضمن تكافؤ الفرص وتحمي الفئات الهشة من الانزلاق ، وفي خضم هذه الأزمات ، أصبحت الهجرة غير الشرعية تحديا إضافيا خطيرا ، إذ تعج ليبيا اليوم بموجات هجرة متزايدة تحولت بعض مناطقها إلى بؤر لتفشي المخدرات والأمراض المعدية ، ونشاط تجارة المخدرات العابرة للحدود ، بما يشكل تهديدا مباشرا للأمن الصحي والاجتماعي والوطني ، ولا يمكن مواجهة هذا الخطر دون تعاون وطني وإقليمي ودولي جاد ، يعالج جذور الظاهرة لا نتائجها فقط ، ويجمع بين الأمن والصحة والعدالة الاجتماعية في مقاربة إنسانية شاملة ، إن مواجهة هذه التحديات تتطلب رؤية وطنية واعية وشجاعة ، تعيد بناء الإنسان ، وتؤمن بأن الصحة والتعليم والوعي والعدالة هي مفاتيح الأمن الحقيقي والتنمية المستدامة ، وحين نرعى عقول أبنائنا وصحة أجسادهم ، ونحمي قيمهم ، نضمن للوطن مناعة ضد الفوضى والانهيار ، ولن يكون للغد معنى ما لم نحفظ شبابنا اليوم ، ففيهم تنبض الحياة ، ويُكتب مستقبل ليبيا ، وتتعافى روحها وقيمها وإنسانيتها ..




